محمد مرشد ناجي.. دار الفلك دار!

TT

في هذه الظلمة والوحشة التي تلف اليمن، بين فقر وانقسام، بين جنوب متحفز ضد الشمال، وشمال يحاول ترميم الوحدة الهشة، ويحارب في داخله أمراض «القاعدة» والحوثيين وعصابات السلاح، وأطماع الخاسرين من مائدة الحكم.

في هذه الظلمة لا نجد «حكمة اليمن»، ولا ضحكات عبد الله البردوني الساخرة وكلماته اللاذعة في شعره النافذ، ولا نجد ساسة من طراز النعمان، أو الشامي. وأخيرا نفتقد وجها مريحا من وجوه اليمن الذي نعرف، يمن الشعر والعلم والحكمة، والتاريخ التليد، من عهد سبأ وحمير وبلقيس وأبي كرب، إلى عهد بني رسول والصليحيين وغيرهم.

قبيل يومين ودع اليمن فنانه الأكبر، وصوته الأشهر، محمد مرشد ناجي، بعد معاناة مع المرض ورحلة علاج لم تطل، و«الشيخ» ناجي، أو المرشدي كما يلقبه محبوه، جزء عميق من ذاكرة اليمن، بل ومن ذاكرة الجزيرة العربية كلها.

ولد عام 1929، في محافظة الشيخ عثمان التابعة لعدن، وعاش عمرا مديدا، بين عهد استعماري هيمن على جنوب اليمن ومشيخاته، ثم في عهد اليمن الجنوبي الاشتراكي، وأخيرا في عهد الوحدة اليمنية، وكان في تلك المراحل فاعلا في الثقافة، وداعما للفن، وفوق هذا وذاك كان مؤرخا نشطا للفن اليمني من خلال مؤلفاته عن تاريخ الفن والغناء وأصنافه في اليمن. وبقي في ذاكرة الناس من «المرشدي» غناؤه وألحانه، وعزفه السهل الممتنع على العود، وبساطة وأصالة مظهره اليمني، كان اليمن مجسدا فيه، غنى الفن العدني واللحجي، وهي فنون منطقته، لكنه غنى اليافعي والحضرمي، بل والصنعاني، وهو من أصعب الفنون اليمنية. يذكر له الناس أغاني راسخة في وجدان المستمع من أهل الجزيرة العربية، فمن ينسى له أغنية «أراك طروبا» مما نسب إلى شعر يزيد بن معاوية؟ ومن ينسى له الأغنية الخفيفة «على مسيري»؟

هو اليمن في تنوعه وعمقه وألحانه، وقد تعاون مع أمراء الشعر اليمني، من حضرموت وعدن ويافع وصنعاء، وقد تعاون مع شاعر حضرموت الشهير أبو بكر حسين المحضار، في قصيدته الحزينة المعبرة عن ألم الاغتراب اليمني الخالدة. وهي قصيدة «دار الفلك دار»، وربما تعبر حاليا عن غربة اليمن عن أهله ومن اعتادوه قديما.

القصيدة التي غناها المرشدي بلحن عذب وصوت شجي مؤثر، وعود مجروح، تقول كلماتها المكتوبة باللهجة الحضرمية:

قريب بابدل بداري دار

معموره وديره غير ذا الديره

لكن قلبي ما رضي يختار

غير «الشحر» لأوليته الخيره

حبـه وتقديره لها من سمح

ولها العز والمقدار

دار الفلك دار وعزمت السفر

دار الفلك دار

***

وطني وفيه الساس والآثار

كم نسعد ونتأثر بتأثيره

دايم وانا فوقه محلق فار

حاشا تهجر الوادي عصافيره

تزدني الغيره ونتشوق

إلى شمسه وظل الغار

دار الفلك دار وعزمت السفر

دار الفلك دار

***

ودعت أحبابي وداعا حار

لي منه ذهاب العقل والـحيره

وأعطيتهم وأعطوني الأسرار

والحساد ما جبنا لهم سيره

خايف من النيره وخايف

يشتعل بعدي عليهم نار

دار الفلك دار وعزمت السفر

دار الفلك دار