رماد بوعزيزي ودماء الاغتيال

TT

لا أدري كم مرة وقعت في خطأ التحليل أو الاستنتاج. لكنني تعلمت مع الوقت ألا أغامر كثيرا بإصدار الأحكام، أو على الأقل ألا أسارع إليها. ونحن عندنا جميعا عقدة الأجانب. ونعتقد أن المراسلين الغربيين يعرفون أكثر منا، لأنهم أكثر جدية وحرية ومنهجية. ولذلك غالبا ما ننقل عنهم. وكم اكتشفنا أنهم أخطأوا وأخطأنا معهم.

ذكرتني أحداث تونس بكتابات المراسلين المقيمين في الشرق الأوسط منذ زمن، عن الأسابيع الأولى للربيع. لقد كان هناك شبه إجماع بينهم على أنها ثورة مدنية سوف تحمل المنطقة إلى حياة ديمقراطية كما في سويسرا أو في بريطانيا. وصنع الإعلام صورا كبرى لأشخاص رآهم أمامه فجعل منهم رموزا تاريخية. كمثل وائل غنيم في مصر أو محمد بوعزيزي في تونس. لكن كما تظهر الخيول المستبعدة فجأة في الصفوف الأمامية، هكذا صار «الإخوان» في مصر وتونس أمام جميع الآخرين.

أمضى الدكتور راشد الغنوشي 27 عاما في لندن، حيث أقدم البرلمانات. وعندما عاد إلى تونس تصرف بمفاهيم الديمقراطية كما يفسرها العرب. أول ما تفعله هو إلغاء الآخرين.

لو عاش محمد بوعزيزي وتأمل لشعر بالحيرة. فأيهما أفضل، نظام يلغي كل حرية سياسية، أم وضع يلغي السياسيين أنفسهم، وفوضى تنتشر فيها وحشية الاغتيالات. وأيهما أفضل، قمع الحرية باسم القمع كما في أيام بن علي، أم قمعها باسم الحريات، كما هو حاصل اليوم؟ أن تتولى الشرطة الرسمية بسط الصمت أم أن تتولاه الشرطة الموازية؟

كلاهما رديء ولا يشكل خيارا. لكنه يدل على مدى الغربة التي نشأت بين العربي والنظام القانوني خلال نصف قرن من غياب أي شكل من أشكال القوانين العامة. وبدل أن تنشأ في العلن معارضات تعرف أهمية العلاقات البشرية وأصول الواجبات والحقوق، نمت في السر والعتم، حركات عنفية لا تعرف سوى السلاح والإبادة.

تفاءل المراسلون الأجانب أو بالغوا في ذلك. وبقينا على شكوكنا. وألصق بنا البعض على وجه السرعة تهمة معاداة الثورة والربيع فيما كنا نتمهل لكي نعرف على الأقل من هم الثوار وأي نوع من الربيع يحملون في حقائب العودة إلى البلاد.

لا يسعدنا إطلاقا أن أحداث العامين الماضيين أثبتت صحة تجاربنا. بالعكس. كنا نتمنى أن ينبت رماد بوعزيزي ربيعا إضافيا في حقول تونس. دماء الاغتيالات تؤذن بأسوأ الفصول.