الجنوب يهاجر أيضا إلى الشمال

TT

عندما تصل إلى فلوريدا من نيويورك بعد ساعتين ونصف، تنتقل من 11 درجة تحت الصفر إلى 27 درجة فوقه. لذا، عليك أن تتدبر بسرعة بضع حوائج صيفية في عز فبراير (شباط)، المعروف بشهر «هلا فبراير»، في الخليج. وفيما أفتش في القمصان ذات ألوان الجزر، وجدت أن بعضها مصنوع في البيرو، وبعضها في الإكوادور، والأخفاف وارد فنزويلا. وفي المطعم، كانت زجاجة الزيت أمامنا من التشيلي، وزجاجة الخل من الأرجنتين، والنادل كان كوبيا بدماء لبنانية، والنادلة إيطالية بدماء مغربية وملامح مغربية ولا ينقصها سوى أن تقول: «واخا».

لماذا تشتغل أميركا الجنوبية عند أميركا الشمالية؟ لماذا فر المكسيكيون ومن سواهم إلى الشمال بالملايين بحثا عن حياة أفضل؟ لماذا خرج الأميركي الشمالي من عصر الكاوبوي إلى عصر «آبل»، ولا تزال بلاد ماركيز في كولومبيا سابقة في عصور الفاقة؟

لم أقرأ تفسيرا للظاهرة. وفي أي حال، لا يمكن طرح المسألة بهذه الطريقة خوفا من تهمة العنصرية. لكن، لا مفر من قليل منها أحيانا، مع تلميحة اعتذار. باستثناء أن المهاجرين الإسبان إلى الجنوب والمهاجرين الأنجلوسكسون، أبادوا تقريبا أهل البلاد الأصليين، فالحقيقة الأخرى هي أن العنصر اللاتيني ذهب جنوبا، والأنجلوسكسوني شمالا. واحد طبعه الفوضى والغناء، وواحد العمل وحفر المناجم. كان البريطانيون ينقلون سجناءهم إلى أرض الوعورة والجليد، مثل أستراليا وكندا وأميركا الشمالية. والإسبان والبرتغاليون يرسلون فرسانهم إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك. فماذا كانت النتيجة بعد قرون زمنية واحدة تقريبا: كندا إحدى أرقى دول العالم. أستراليا هي شريك الصين الأكبر. والولايات المتحدة تصهر عقدا بعد عقد ملايين المهاجرين، خصوصا من القارة الجارة.

أفادت أميركا الشمالية من فقر وتخلف الجنوبية، والآن تفيد الجنوبية من غنى وثراء الشمال. نصف كوبا صارت هنا. وكذلك المكسيك. والباقي يحاول. ولكن القارة اللاتينية تسجل على نفسها تقدما مهما أيضا، لا تفسير لتفاوته. أي لماذا تتعثر دولة مثل الأرجنتين، وتلمع دولة أقل رقيا مثل البرازيل؟ وأين أضاعت الجنوبية الغنية بالثروات كل هذا الوقت، فيما كان الشمال ينحت في صخرة الاقتصاد العالمي؟ حتى الفقر الشديد أشد فقرا في الجنوب عنه في الشمال. وإلى اليوم، ليست هناك هارفارد واحدة عند اللاتينيين. ولا يزال مرشحو الرئاسة في المكسيك يفاخرون بأنهم درسوا في هارفارد. ولكن، ألم يفعل ذلك أيضا فاليري جيسكار ديستان وجاك شيراك، المنتميان إلى بيت العلم الفرنسي!