من أحبط الانقلاب في سوريا؟!

TT

من قال إن حروب الحضارات والثقافات والمذاهب مستحيلة؟ خاضت أوروبا حربا دينية استمرت مائة عام. وانتهت بانصهار حضاري/ ثقافي بين الكاثوليك والبروتستنت. هذا الانصهار ما لبث أن صنع مع فرعه الأميركي حضارة غير دينية أشرقت على العالم بتقدمها. بخيرها. وشرها.

الدين السماوي، بسموه الأخلاقي وفضائله الاجتماعية ليس بشرط كاف لصنع الدول والإمبراطوريات المتعددة المذاهب والأعراق.

عجزت إمبراطورية شارلمان المسيحية (الفاتيكانية) في أوروبا. وعجزت الإمبراطورية الإسلامية، عندما سقطت سلطتها العربية، لصالح مماليكها من أجناس أخرى. مع ذلك، تهب على العرب والمسلمين «جهاديات» تحلم بإمبراطورية سلطانية أو خلافة دينية تستذكر الأمجاد. وتكرر المآسي.

خسرت روسيا الشيوعية حرب الثقافة السياسية. فغادر الإسلام «الجهادي» الشيعي والسني الإسلام التقليدي والسياسي، ليشعل مواجهة دينية ثقافية/ حضارية، لا لزوم لها، مع الغرب.

إيران تعذب نفسها بحرب «جهادية» ثقافية ضد أميركا. وتمكنت بثقافة العداء أن تخترق المشرق العربي. الإسلام السني «الجهادي» انطلق من أفغانستان وباكستان والمشرق (العراق) في مواجهة انتحارية ميدانية ضد مجتمعاته والغرب. وها هو ينطلق من المغرب (تونس. الجزائر. ليبيا) ليدخل في مواجهة مماثلة مع مجتمعاته العربية، والأفريقية حيث الحضور الغربي ما زال ماثلا، بتفوقه. ومصالحه. وثقافته.

ثم انتهز الإسلام السني «الجهادي» تردد أميركا المستنزفة في حروبها في العالمين العربي والإسلامي، ليفتح جبهة جديدة في سوريا. فقد تسللت «جبهة النصرة» المتواصلة مع جهادية «القاعدة» في العراق، إلى سوريا، لتخوض الحرب المذهبية التي أشعلها النظام العلوي، لصالح الإسلام «الجهادي» الشيعي في إيران.

بانفجار الانتفاضات العربية، تغيرت معطيات سياسية كثيرة في المنطقة، ومعها تغيرت ثقافات واعتقادات كثيرة. في مقدمتها، قابلية تخلي سوريا الثورة عن ثقافة العداء لأميركا، بعدما تبين لها أن «ممانعة» النظامين الإيراني والسوري لم تحقق استعادة الجولان أو وقف الاستيطان. ولم تفرض «البحبحة الدعائية» للراحل أحمد الشقيري التي تبناها أحمدي نجاد، دحر إسرائيل من النهر إلى البحر، كما ظنت حماس المحاصرة في غزة.

هذا الاستعداد الشعبي السوري قابلته إدارة باراك أوباما، بارتكاب خطأ استراتيجي كبير. فلم تنتهز الفرصة لممارسة التدخل غير المباشر، بتقديم السلاح للثورة. هذا التردد والإحجام كان لهما أسباب كثيرة بات معظمها معروفا. وأكتفي هنا بذكر الأسباب الخفية والمستترة:

* رغبة الرئيس المثقف في تجنب أخطاء رئيس أهوج أدى تدخله المسلح المباشر في العراق وأفغانستان إلى هزائم وخسائر أميركية كبيرة.

* اشتباك الثورة السورية بعوامل إقليمية كثيرة التعقيد، مع غياب أميركي تحليلي لم تنجح مراكز البحوث الكثيرة في تقديمه.

* دعم إسرائيلي استيطاني لنظام بشار، بعدما أثبت نظام الأسد، أبا وابنا، تفضيل ارتهان الجولان لدى إسرائيل، على تعريض نظامهما إلى خطر الصدام معها.

* وجود تيار سياسي قوي في الطبقة السياسية والإعلامية الأميركية يدعو إلى ترك العرب والمسلمين يستنزفون أنفسهم بأنفسهم، بدلا من الاستمرار في الصدام الحضاري والثقافي معهم، أو التدخل للفصل فيما بينهم.

* في المقابل، هناك تيار عسكري/ سياسي متحمس للتدخل والحسم في سوريا.

حرية التعبير والحوار في الولايات المتحدة كشفت حقائق مذهلة في الأيام الأخيرة، عن قدرة الرئيس أوباما، على إحباط كل الخطط والمساعي للتدخل الأميركي المسلح في سوريا. وباتت سوريا الآن قضية أميركية مفتوحة علنا، أكثر تعقيدا مما هي إقليمية. وأستطيع أن أقول إن الخلاف داخل إدارة أوباما كان أعمق بكثير مما ذكرته الصحافة الأميركية. وأدى إلى استقالة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، ليس لمجرد رغبتها في التقاعد بعد مرضها، أو لتحضير نفسها لخوض معركة الرئاسة بعد أربع سنوات.

بشيء من التفصيل عن الخلاف حول سوريا، أقول إن القيادة العسكرية والأمنية انحازت إلى جانب هيلاري. لكن الانضباط الديمقراطي أجبرها على الخضوع لرأي وموقف الرئيس الذي يملك السلطة والصلاحية الشرعيتين.

بات معروفا الآن أن الجنرال ديفيد بترايوس مدير المخابرات وضع خطة للتدخل ليس لمجرد التسليح والتدريب، وإنما لما يمكن أن أسميه بانقلاب عسكري وسياسي في سوريا، من شأنه لو حدث، إلحاق هزيمة نكراء بالاستراتيجية الإيرانية/ الروسية الراهنة.

الإعلام العربي لم يبد اهتماما يذكر بنزول خبراء مدنيين وعسكريين أميركيين في تركيا والأردن في الخريف الماضي، في إطار طلائع البنى اللازمة للتغيير في سوريا. وأقول إنها أقامت جسور وصل واتصال، مع قوى الثورة السورية المختلفة. بل مع قادة عسكريين ومدنيين في نظام بشار، أسفرت عن انهيار جزئي في هيكلية حزب البعث الممسك بالإدارة الحكومية. ومقتل وفرار مسؤولين كبار مدنيين وعسكريين.

هيلاري كلينتون أمنت التغطية السياسية لخطة بترايوس الانقلابية. وتولت تقديمها إلى وزير الدفاع ليون بانيتا وجنرالات البنتاغون. وحصلت على تأييد الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة، قبل دفعها إلى الرئيس أوباما في البيت الأبيض.

بعد تردد قصير، حسم أوباما موقفه. رفض خطة التدخل وهو في ذروة انشغاله في معركته الانتخابية. فجأة، وبهدوء تام، سحبت الخطة من التداول. واعتذر الجنرال جيمس ماتيس قائد القيادة المركزية المكلفة بالشأن العسكري في الخليج والمشرق العربي، للقادة العسكريين السوريين اللاجئين إلى تركيا والأردن.

إحباط أوباما لمشروع الانقلاب السوري والتغيير ضد إيران في المشرق العربي اكتمل سياسيا بمناسبة تشكيل إدارة أميركية جديدة بعد الانتخابات. فقد استقالت هيلاري. وصرف بانيتا من الخدمة. وخسر بترايوس مستقبله السياسي إثر انكشاف علاقته مع فتاة لبنانية أميركية. وغابت طلائع البنى العسكرية الانقلابية التي تجمعت في تركيا والأردن.

أستطيع أن أفسر كثيرا من الأحداث الظاهرة والخفية في المنطقة في ضوء الانقلاب على الانقلاب. تم إرضاء تركيا بنصب صواريخ باتريوت لحمايتها من الصواريخ السورية. واستمر مالكي العراق في السماح بمرور جسر الشحن اللوجستي من إيران إلى سوريا.

وفي لبنان، اغتيل الضابط الأمني وسام الحسن الذي كشف التورط السوري في محاولة تفجير موكب بطريرك الموارنة بشارة بطرس الراعي. وذهب البطريرك إلى دمشق لتهنئة بطريرك الأرثوذكس الجديد، ولتهنئة بشار بالسلامة.

في المنطقة، اختفى شباب الانتفاضة الذين تبنتهم هيلاري ومراكز التدريب الأميركية على ممارسة الديمقراطية. وتمت طمأنة الرئيس محمد مرسي في منصبه. فظهر في الصورة مع إيران وتركيا. وتلقى حمادي الجبالي رئيس الحكومة التونسية ضربة على فمه ويده من حزبه الذي رفض استقالته. واستغل الإسلاميون المتزمتون «صحوة» أوباما فأطلقوا دعوات التكفير والقتل ضد زعماء المعارضة المصرية، بعد اغتيال الناشط القومي التونسي شكري بلعيد.

هل يلغي تشكيل إدارة أميركية جديدة من حمائم مسالمة، إمكانية التغيير وانقلاب جديد في سوريا؟ ليس بشيء مستبعد. نعم، منح أوباما إيران. وبشار. وحزب الله. و«جبهة النصرة» فرصة جديدة للتصرف بهدوء وحكمة. لكن الاحتمال ما زال قائما. والدليل وضع برنامج تسليح «حزب الله» عبر سوريا، تحت الرقابة الجوية والبرية الإسرائيلية. هل يقبل بشار وإيران بهذه الإهانة الجديدة؟