أمر بالانتحار

TT

قال الفيلسوف الروماني لوسيوس سينيكا إن تخليد شهرة سلفه اليوناني أرسطو هو أنه أرغم على الانتحار بالسم. ورغم كونه أهم عقول الإمبراطورية فقد عمل مستشارا لدى الأكثر جنونا وضراوة بين أباطرتها، نيرون الفاسق أو نيرون الحارق أو فقط نيرون، الذي صار اسمه أسوأ من أي صيت. وعندما أبلغ نيرون أن سينيكا شريك في مؤامرة لاغتياله، قرر قتله. كيف؟ أمر بأن ينتحر مثل أرسطو.

سألت أستاذا جامعيا في بيروت، أعتقد أنه من كبار المثقفين وليس الأكاديميين، عن أفضل الكتَّاب عنده وقلت له أعرف أن الجواب صعب على رجل في مثل غناه وتعدد ثقافاته، فلا ضرورة لجواب فوري. خذ وقتك. قال إنه منذ تخرجه في الفلسفة من كمبريدج وهو يحمل الجواب على هذا السؤال تحت إبطه، وما تغير رأيه منذ أربعين عاما: لوسيوس سينيكا. أو «سينيكا» فقط كما عرف، تماما مثل سقراط.

كان نيرون في البداية تلميذ المعلم المقبل من قرطبة إلى روما. لكن ماذا تعلم منه؟ لا شيء. رفض أن يتعلم إلا من نفسه ومن طباعه.. ويوم أحرق مدينته وهو يعزف عزفا رديئا على الكمان، لم يتذكر شيئا من أجمل ما كتب أستاذه تحت هذه العناوين الثلاثة: الغضب، الرحمة، الانتقام.

كلما حدثت خضة في العالم العربي - أو لم تحدث - اندفع الجميع يتساءلون، أين هم المثقفون؟ أين هو دورهم؟ ولكن من يسمع للمفكرين في اشتعال الغضب؟ توقعت بعد القذافي أن يصغي العالم العربي إلى أصوات عدد من الكتاب الرائعين الذين أفرج موته عنهم. غير أننا لم نستطع رؤية أحد منهم من خلف 250 ألف مسلح قبضوا على الدولة والحياة. وفي تونس لم نسمع أحدا سوى المنصف المرزوقي الذي للأسف صار رئيسا للدولة، فقرر كثيرون خنق صوته وإخفاء صورة العدالة والإنصاف التي يمثلها أو يدعو إليها.

وفي مصر ترك علاء الأسواني صناعة الرواية المؤثرة والمغيِّرة في المجتمعات، لكي ينصرف مثلنا إلى كتابة المقالات، منتقيا أن يكون هو مفكر الثورة، غير مدرك أن الغضب أسكت جميع الأصوات ولم يعد في الميادين سوى الحرائق وصوت حمادة صبري مولولا وهو يسحل.

الاستثناء، ربما، المثقف السوري الذي خرج إلى الحياة والإبداع من قفص جمعية الكتاب أو الأدباء أو شيء من هذا. وهي جمعية طردت أدونيس ولم تقبل نزار قباني ولم يكن فيها محمد الماغوط أو زكريا تامر.