حزب رئيس تونس المؤقت والسكتة القلبية

TT

تمر الترويكا الحاكمة حاليا في تونس بأزمة عميقة، ليس فقط على مستوى العلاقة بالمعارضة وباقي مكونات النسيج السياسي والمدني، بل أيضا في داخلها. وآخر مظاهر التأزم إعلان مؤسسة الرئاسة (الرئيس وغالبية المستشارين ينتمون إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية) رفضها مقترح رئيس الحكومة حمادي الجبالي على أثر كارثة اغتيال المناضل المعارض شكري بلعيد. ولا يفوتنا التذكير بأنه قبل أيام لوح حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بسحب وزرائه من الحكومة في ظرف أسبوع إن لم يتم التغيير على رأس وزارتي العدل والشؤون الخارجية. فمثل هذا التلويح وبعده الرفض القطعي لقرار حمادي الجبالي تشكيل حكومة تكنوقراط يمثلان أعلى سقف يمكن أن يبلغه التوتر.

والظاهر أن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية له ضلع في حالة الأزمة التي يعيشها المشهد السياسي التونسي بصفة عامة، ناهيك عن أن مواقفه ذات الطابع الراديكالي الحاد قد أثارت استغراب البعض سواء من المنخرطين في الحياة السياسية أو من النخب عموما.

لا شك في أن الراديكالية ليست خاصية جديدة بالنسبة إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، فلطالما اتسمت بها مواقفه تجاه النظام السابق في تونس ما قبل الثورة. لكن الملاحظ هو أن هذا الحزب حافظ على الخاصية نفسها، والجرعة نفسها، حتى بعد حدوث الثورة ودخول تونس مرحلة جديدة طموحها الديمقراطية والقطع مع الماضي. فهل يمتلك حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الخطاب نفسه لكل المراحل وكل الأوضاع، أم أنه يتمسك بالراديكالية منهجا صحيحا كان أم عكسه؟

ومن يتعمق في بعض الصراعات القائمة داخل الحزب يلاحظ أنها في جوهرها صراعات حول من الأكثر راديكالية من الآخر، وهنا نتذكر كيف أنه بعد وقت وجيز من تقلد السيد المنصف المرزوقي منصب الرئاسة حصل انشقاق داخل الحزب، الشيء الذي أضعف الحزب غير العريق بدوره وأظهره فاقدا للرصانة السياسية من جهة أخرى.

والأنكى من كل هذا أن بعض تصريحات ممثلي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية كثيرا ما تعكس إرادة الجمع بين خطابي أحد الأطراف الحاكمة والمعارضة في الوقت نفسه، وآخر هذه التصريحات ما تعلق بحادث اغتيال شكري بلعيد. ومن ثمة فهو من حيث بنية أصحابه المزاجية والنفسية والفكرية يرى كحزب أن مكانه الطبيعي في صفوف المعارضة حتى ولو كان للسلطة سلطانها على نفوس منخرطيه شأنهم في ذلك شأن كل الفاعلين في الحقل السياسي.

كما أننا لا نستطيع أن نفهم السلوك السياسي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وقدرته على مفاجأة شركائه في الحكم وأيضا التونسيين إلا إذا فهمنا عمق انشداده إلى أداء دور المعارض وعدم القدرة على استيعاب واقعه الراهن كطرف حاكم، وهو في حد ذاته مأزق بسبب ما يمكن أن ينجر عنه من مواقف الواقع التونسي العام في غنى عنها.

من جهة أخرى، تبدو راديكالية حزب المؤتمر من أجل الجمهورية محسوبة أحيانا بالمعنى السياسي (مثل موقفه المخاتل من مسألة رابطات حماية الثورة)، وتطغى عليها العفوية التي لا تستند في أغلب الأحيان إلى مسوغات مبررة ومقنعة. من ذلك أن حزب رئيس تونس المؤقت هو صاحب اقتراح مشروع إقصاء التجمعيين السابقين من الحياة السياسية لمدة خمس سنوات. ولا يعدو هذا القانون المقترح مجرد مشروع، وإنما عقبة أساسية في طريق مرحلة الانتقال الديمقراطي خصوصا تحقيق الحوار الوطني وبلوغ الحد الأدنى من الوفاق.

في الحقيقة اتخاذ مثل هذا الموقف الراديكالي يبدو نشازا وانفصاميا إذا ما عدنا إلى اعتبارات عدة، أولها أن مبادئ الحزب المصرح بها تنص على تشريك كل الطبقات السياسية التي تزخر بها البلاد، وأيضا إقامة دولة المواطنة وفاء لقيم وشعارات الكرامة والحرية، من دون أن ننسى أن عددا لا بأس به من قياديي هذا الحزب هم ذوو تكوين حقوقي وقانوني، الشيء الذي يؤكد خاصية التناقض، إذ كيف لحقوقي أو لمن يمتهن مهنة المحاماة أن يقترح مشروع قانون ويستميت من أجله وهو قانون يعتدي على الحريات الأساسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟

إن الهم الأكبر للتونسيين اليوم هو إيقاف مخطط الاغتيالات السياسية والأسعار المشتعلة وارتفاع أسعار المحروقات وتفاقم المديونية وليس إقصاء حزب تم حله قانونيا بعد الثورة. وإذا كان حزب المؤتمر من أجل الجمهورية اسما على مسمى، فإن جمهورية تونس الجديدة لا تبنى بالتهديدات ولا باقتراح قانون إقصاء من كانوا تجمعيين، وتشريع الموت السياسي عنوة، خصوصا أن الاستنفار لتعجيل تمرير قانون الإقصاء تزامن مع صعود حزب نداء تونس إلى المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي.

إن حزب رئيس تونس المؤقت مهدد بالسكتة القلبية إذا لم يعرف التقاط حساسية اللحظة التي لا تحتمل مواقفه الذابحة والمستبطنة للفتنة.