أخلاقيات مهنة الطب وشركات الأدوية

TT

قال أبو العلاء المعري يوما كلاما ينطبق على الأطباء ومفاده: «وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه». وعليه سيكون سلوك الطبيب، في الغالب، هو وفق ما تعلمه في الكلية كطالب للطب ورآه في المستشفى، كطبيب حديث التخرج، من سلوكيات الأطباء الأكبر سنا منه والذين تلقى منهم تعليمه وأخلاقيات ممارسته الطبية.

والقضية أن الطبيب يعالج المرضى بأدوية، ويجري لهم فحوصات بأجهزة طبية، ويعالجهم بالجراحة أو الوسائل التدخلية من خلال استخدام أجهزة وأدوات لإجراء تلك العمليات أو زراعتها في الجسم. وهذه كلها تنتجها شركات للأدوية وشركات لإنتاج الأجهزة الطبية. وحتى حينما يقرر المستشفى شراء الأدوية أو الأجهزة تلك دون توصية مباشرة من طبيب ما، تظل حاجة الأطباء قائمة إلى التعاون مع تلك الشركات لفهم منتجاتها وكيفية استخدامها، وتظل الشركات تلك تحتاج إلى التواصل مع الأطباء والمعنيين بالمستشفيات لشرح فوائد منتجاتهم وكيفية استخدامها وكيفية صيانتها وغير ذلك.

إلى هنا القصة جميلة ومفيدة وبريئة. ولكن البراءة والجمال لا يبقيان، إذ ما نلبث أن ندخل في دهاليز ومتاهات المنافسات التجارية الحامية «جدا» بين الشركات المنتجة للأدوية والشركات المنتجة للأجهزة الطبية، ولأننا نتحدث عن أسواق بأحجام ذات أرقام تقدر بمليارات الدولارات، فإننا لن نستغرب إطلاقا ما تعلنه الهيئات الصحية في الولايات المتحدة عن أن رقم ما تنفقه شركات الأدوية وشركات إنتاج الأجهزة الطبية على «جهود» التسويق لمنتجاتها يتجاوز 10 مليارات دولار في العام الواحد، وفي دولة واحدة من العالم الواسع.

وكأي نوع من المنافسات التجارية، التي تتحدد على أثرها أرباح تتجاوز المليارات، فإننا لن نكون على أقل تقدير «ساذجين» في رصد المشهد ولا نتصور غير «ضغط» التنافس وتأثيراته على سلوكيات الدعاية لتلك الشركات في سوق مفتوحة على مصراعيها للتنافس، ومغلفة بعنوان براق وهو «خدمة علاج المريض بشكل أفضل». ولأن منْ يحدد الاستخدام ويفضل منتجا على منتج هم الأطباء بالدرجة الرئيسية، مدعومين في الحالات «المثالية» بنتاج دراسات طبية تدل على الأفضلية في المقارنة بين المنتجات والأدوية تلك، فإن المستهدف بجهود «الدعاية» هم الأطباء.

ولاختصار الحديث في سرد القصة الطويلة ومشاهدها الدرامية، نحتاج هنا إلى «تحصين» الأطباء و«تطعيمهم» باللقاحات الواقية من «الانحياز» أو من «سوء التقدير» في تفضيل أي من تلك المنتجات، وتحت عنوان «خدمة علاج المريض بشكل أفضل».

المجلة الطبية البريطانية «BMJ» عرضت في عدد 31 يناير (كانون الثاني) الماضي نتائج دراسة الباحثين من جامعة يال الأميركية حول تأثير التحصين و«التطعيم» المبكر للأطباء من قبول هدايا شركات الأدوية. وأشاروا إلى أن اعتماد كليات الطب كتابة سياسات أخلاقية Ethics Policies تضبط الانفلات في قبول طلبة الطب لهدايا شركات الأدوية يساهم في تفهيمهم أبعاد هذه القضية في وقت مبكر من عمر المهنة الطبية لهم.

وبنيت الدراسة الطبية هذه على اعتماد إلزام 14 كلية طب بالولايات المتحدة عام 2004 إصدار سياسات للحد من قبول طلاب الطب للهدايا gift restriction policies من شركات الأدوية. وتابع الباحثون نمط كتابة وصفات الأدوية المطروحة حديثا من قبل شركات الأدوية لعلاج الحالات النفسية وذلك في عام 2008 و2009. ولاحظ الباحثون أن الأطباء المتخرجين في كليات الطب التي لديها تلك السياسات وتعلمها لطلابها، كانوا أقل إقبالا على كتابة وصف الأدوية الحديثة تلك مقارنة بالأدوية الأخرى البديلة.

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي صدر كتاب: «الصناعة الصيدلانية السيئة: كيف تضلل شركات الأدوية الأطباء وتؤذي المرضى»، للطبيب والأكاديمي البريطاني بن غولدكير. وقال الطبيب في كتابه: «الصرح الطبي بكامله مكسور» لأن أسس نظام تقديم الخدمة الطبية تشوهت بفعل شركات الصناعة الصيدلانية. وأضاف أن الشركات تلك هي التي توفر الدعم المالي لإنتاج الدراسات الإكلينيكية على منتجاتها، وبشكل روتيني تحجب إعلان النتائج السلبية، وغالبا ما تجري الدراسات تلك على عدد محدود من المرضى، وغالبا تكون كتابة تلك البحوث وإعدادها للنشر ليس بقلم الأطباء الباحثين بل كتاب من الشركات نفسها. ووصل بالوصف إلى حد استخدام عبارة «الكارثة الإجرامية» على ما يحصل. ورغم التعليق الرافض لرابطة صناعيي الصيدلانيات بالمملكة المتحدة على الكتاب فإن ذلك كان بسبب أن الأمثلة التي ذكرها الكاتب عن الشواهد على الحقائق هي «قديمة»، إلا أن الرابطة لم تستطع القول أكثر من ذلك. ومعلوم أن كونها قديمة إثبات على أنها وقعت بالفعل من قبل أفراد من الأطباء وبعض الشركات تلك.

والحقيقة أن القضية «لا تزال تراوح مكانها»، وهذا هو الوصف الواقعي لعلاقات الأطباء الشائكة بشركات الأدوية وبشركات إنتاج الأجهزة الطبية. والقضية يصعب حصر سراديب ودهاليز مظاهرها وأبعادها وتداعياتها، ولكنها تظل بامتياز إحدى أهم القضايا الطبية الأخلاقية ذات العلاقة بروح مهنة الطب وأسس ممارستها. ومظهر البراءة، ما زال هو الغالب في النظر عند ذكر القضية هذه، إلا أنها براءة تحتاج إلى تحقق من براءتها بالأصل.

والحل يكون ربما في وضع سياسات وإجراءات واضحة في المستشفيات لضبط العلاقات تلك والأهم لحماية المرضى من تأثيراتها وتعريضهم لتناول أدوية أو استخدام أجهزة بينما هناك ما هو أفضل منها.

* استشاري باطنية وقلب

- مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]