العودة إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟!

TT

لم يستطع رئيس أميركي مقاومة فكرة أن يسجل في التاريخ أنه قام بتحقيق السلام في الأراضي المقدسة، رغم كل التحذيرات التي عادة ما تأتي من خبراء محنكين أن الفكرة مستحيلة وأن السعي وراءها قد يجعل الرئيس يفقد أرصدة سياسية أخرى. الأسباب معروفة، منها ما هو مرتبط بالثقافة البروتستانتية الأميركية، ومنها ما هو مرتبط بما هو معروف في الدوائر الأميركية بأمن إسرائيل، ومنها ما هو لصيق بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط والنفط في المقدمة منها.

باراك أوباما لم يكن استثناء من القاعدة العامة، فقد هبط إلى البيت الأبيض لقضاء فترته الرئاسية الأولى وهو يعتقد أنه أكثر الرؤساء المؤهلين لإنجاز هذه المهمة التاريخية، فكان الإعلان عن تعيين مبعوث خاص لعملية السلام، وكانت خطاباته في الرياض وإسطنبول والقاهرة لترطيب الأجواء بين أميركا والعالم الإسلامي، وبعد ذلك جرت جولات في واشنطن وشرم الشيخ، وانتهت المسألة برمتها كما هو معروف على صخرة المستوطنات الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني، وتجدد الصدام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لم يكن في القصة ما هو جديد وكان معروفا منذ البداية، وربما كان أوباما هو أسرع من حاول تقليل خسائره بإغلاق الموضوع في الثلاجة الأميركية حتى تنتهي الانتخابات الرئاسية. وبمهارة فائقة نجح الرئيس الأميركي في تجنب القضية بأكملها، فكانت على هامش الحملة الانتخابية كلها.

الآن بدأ أوباما فترته الثانية، وهي الفترة التي يبدأ فيها إلحاح التاريخ على عقل الرئيس، ماذا سوف يقول عنه المؤرخون؟ وكيف سوف يذكر اسمه في كتب التاريخ؟ ولمن لا يعلم فإن ساكن البيت الأبيض سن سنّة لا أعرف عما إذا كانت جديدة أو أنها كانت موجودة من قبل، وهي أن الرئيس يجتمع بصورة دورية مع كبار المؤرخين الأميركيين الذين ينقلون له باستمرار خبرة الرؤساء السابقين، وكيف تعاملوا مع مواقف صعبة. ماذا جرى في هذه الاجتماعات في ما يتعلق بالشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي؟ لا نعرف ما جاء فيه، ولكن البادي هو أن الرجل يدرك جيدا أنه إزاء عمليتين تاريخيتين تجريان في تلك المنطقة من العالم: الأولى أن تغيرات عميقة تجري في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية في المنطقة تحت مسمى «الربيع العربي»، ولكنه ربيع قابل لكل احتمال بما فيها أن يكون الربيع بلا زهور، وأشواكه سامة، وثمراته حنظلا. والثانية أن الصراع العربي - الإسرائيلي سوف يتحول ويتشكل من جديد كما فعل مع كل التطورات التاريخية الكبرى التي عاشها من عصر الاستعمار إلى تصفية الاستعمار إلى زمن الحرب الباردة ومن بعدها اجتياح العولمة للعالم حتى وصلنا إلى الإرهاب والحرب عليه التي شغلت العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. كيف سيكون حال الصراع مع التغيرات الجوهرية الجديدة؟ مفتوح لكل الاحتمالات، ومع كل الاحتمالات يزداد عدم اليقين ويسود الشك وتصبح كل التقديرات الاستراتيجية مجرد تخمينات.

ما سوف يفعله الرئيس بالصراع هو أن يبدأ بزيارة إلى إسرائيل لم يفعلها طوال الرئاسة الأولى ومن ثم فإنها سوف تأتي كـ«عربون» أو مقدمة للمحبة مع رئيس وزراء إسرائيلي كان الود مفقودا معه. الزيارة أيضا سوف تشمل أربع ساعات من اللقاء مع أبو مازن، الاستكشاف فيه وارد، ولكن تعزيز مكانته مطلوبة وسط المنافسة الفلسطينية. قد تنتهي الرحلة بعد ذلك وينتصر رأي الخبراء أن الصراع باقٍ على حاله، ولعل الأطراف تنتظر ما سوف تؤول إليه لعبة الكراسي الموسيقية الجارية في المنطقة، ولا أحد على أية حال يريد أن يقاطع الموسيقى ونغماتها عالية ودامية أيضا. ولكن الاحتمالات تظل مفتوحة، فليس لهذا جرى انتخاب الرؤساء، وإنما المهام الصعبة هي أصل مهنة الرئاسة وجوهرها. الوارد هنا الاستعانة بأكثر من صديق، وفي العادة فإن السعودية ومصر وتركيا تقع في المقدمة، ولكن الرئيس الأميركي يدرك أن هناك صديقا أو عدوا قديما بات لا يمكن تركه على الهامش، وذلك الطرف موجود في موسكو.

حلم التاريخ لدى أوباما كادت الأزمة الاقتصادية العالمية أن تجهضه في الرئاسة الأولى، والآن فإن الحالة ليست على بؤسها الأول، ولكنها ليست وردية كذلك. وما سوف يفعله، أو يحاول فعله، أن يتحرك على جبهة واسعة أوضحها في خطابه عن حالة الاتحاد الأميركي. الجبهة الأولى مع روسيا من خلال عقد اتفاق جديد وواسع المدى لتخفيض الأسلحة الاستراتيجية لدى الطرفين من 1700 رأس نووي إلى 1000 رأس تكفي وأكثر لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات. ولكنها مع بقاء «الردع» فإنها تعيد إلى روسيا الشعور بأنها لا تزال «قوة عظمى» على الأقل في مجال فناء الجنس البشري إذا كانت روسيا غير قادرة على المنافسة في مجال الحياة الإنسانية. ومن يعرف تاريخ الثلث الأخير من القرن العشرين سوف يعلم أن محادثات تخفيض الأسلحة الاستراتيجية من أول «سالت» إلى «ستارت» كانت هي المقدمة للوفاق والتوافق بين روسيا وأميركا، ومن بعدها بين روسيا والغرب عامة، وفي كل الأحوال فإنه إن لم يجعل موسكو شريكا في إدارة العالم فإنه سوف يمنع وجودها كعقبة كما هو الحال في سوريا التي سوف تقرر نهاية الأزمة فيها أمورا كثيرة في الشرق الأوسط وفي العالم.

ولأن الوفاق مع روسيا أحيانا ما يقلق أوروبا، فإن باراك أوباما لديه ما يخفف هذا القلق، فرغم استمرار الاهتمام بآسيا فإن أوروبا هي الشريكة الحضارية والتاريخية لأميركا، وبشكل ما فإن ضفتي الأطلنطي هما جناحا ما هو معروف تاريخيا بالغرب. وهنا فإن إبرام اتفاقية تجارة حرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يضع العلاقة بين العملاقين على مستوى جديد، ويخلق أكبر كتلة تجارية واقتصادية عرفها التاريخ. الفكرة بالمناسبة ليست جديدة، وكانت هناك أكثر من محاولة في السابق، ولكن أوباما يريدها أن تحدث في عهده فتسجل في التاريخ من ناحية، ولكنها تجعل المحيط الأطلنطي بحيرة غربية بامتياز استراتيجيا من خلال حلف الأطلنطي، وتجاريا من خلال منطقة التجارة الحرة، وحضاريا من خلال وشائج كثيرة لا تنفصم، جاء بعضها من التاريخ وبعضها الآخر من تحديات الحاضر القادمة من الصين وتقلبات الدول الإسلامية. وهكذا تكتمل حزمة سياسات أوباما لدخول التاريخ وتحقيق مصالح بلاده، ولكن التاريخ دوما يعلمنا أن أفضل الخطط يمكن وضعها ولكن مسار البشر دائما أكثر مما هو متوقع، بل هو أقرب إلى الخيال.