تاكسي الفضفضة في لندن!

TT

تذكرت وأنا أتبادل أطراف الحديث الشائق مع سائق سيارة الأجرة الإنجليزي أمس، ما قرأته سابقا في «مجلة العربي» من إعداد الحكومة البريطانية لبرنامج فريد من نوعه يهدف إلى تدريب سائقي سيارات الأجرة الشهيرة في لندن على الإنصات إلى الركاب بدلا من توجيه الكلام إليهم. وما دفعهم إلى ذلك هو أن «دراسات أظهرت أن سيارات الأجرة توفر مناخا مريحا لمساعدة المواطنين على البوح بمشكلاتهم، خاصة النساء اللائي يعانين العنف الزوجي ويسارعن بطلب سيارة الأجرة للابتعاد عن البيت»، حسبما ذكرت نعمات البحيري في مقال لها.

وبالفعل شعرت وأنا أتحدث إلى ذلك السائق الإنجليزي الوقور والمثقف بأنني شخص مهم بالنسبة إليه، وهو شعور ينتاب أي إنسان حينما يدرك أن جليسه يمنحه آذانا صاغية وينتبه بصدق إلى كل سؤال يوجه إليه ويجيب عليه بدقة، وهو الأمر نفسه الذي يحس به الموظف حينما يتحدث إلى مديره أو خطيبته أو إلى شخصية مرموقة ظفر بلحظات خاطفة من وقتها الثمين.

بحكم احتكاكي الدائم بالشعوب الغربية المتحضرة ألحظ أنهم أكثر منا ميلا إلى الإنصات إلى كلام الناس وفضفضتهم، وأقل استعراضا للحديث عن أنفسهم، لا سيما حينما يشعرون أن جليسهم لديه تجربة مختلفة تستحق أن ينصت إليها. وهذا السلوك الراقي إن لم يفدنا فإنه لن يضرنا؛ لأننا بذلك ندخل السرور على قلوب جلسائنا، ونحمسهم ونشجعهم على كشف مزيد من المعلومات والمشاعر والأحاسيس، فتنتقل خبرتهم وانطباعاتهم ومعلوماتهم إلينا. وهذه هي سلسلة التعلم الإنساني منذ خلق سيدنا آدم الذي منه انحدرت سائر المعلومات بإنصات ذريته إليه، ثم إلى بعضها البعض جيلا بعد جيل. ألم يقل الله عز وجل العليم: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».

إن الإصغاء إلى فضفضة الناس وتجاربهم لا يفيدنا فقط، بل ثبت في دراسات عدة، منها دراسة بجامعة كاليفورنيا، أن هذه الفضفضة لها جانب علاجي، إذ تبين أن «معدل دقات قلب الأشخاص الذين شملتهم الدراسة ارتفعت لدى رؤيتهم أشخاصا يتصرفون بشكل سيئ، لكن الزيادة كانت معتدلة عندما كانوا قادرين على إخبار الآخرين بما شهدوا». ولذا تجد أن الأطباء النفسيين والمستشارين ينصتون إليك طوال الوقت حتى يفهموك جيدا، ثم يتحفونك بتوجيهاتهم ونصائحهم.

ومن هذا المنطلق لجأت شركة في نيويورك إلى تخصيص سيارات أجرة وفيها مستشار نفسي ينصت إلى فضفضتك ويوجهك باحترافية حتى لا تخرج من «مولد الازدحام المروري» بلا حمص كما يقال، وهو ما يفعله بعفوية التاكسي الإنجليزي الأشهر في العالم!

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]

twitter: @malnughaimish

[email protected]