«لبننوها».. علها تستقيم

TT

«اللبننة»، في عالم السياسة، كـ«الكي» في عالم الطب: آخر العلاج.

مع ذلك، أصبحت وصفة تطرح على سوريا بعد أن تفاقمت الأضغان الطائفية والمذهبية في مسار ثورتها إلى حد جعل «إعدام» تمثال الشاعر والمفكر العربي، أبو العلاء المعري، أحد أبرز إنجازاتها.

طرح «اللبننة» تسوية مرحلية لنزاع ينحرف باطراد عن مساره الوطني، قد يشكل اليوم المدخل الأنسب لإطلاق الحوار الذي يدعو إليه رئيس الائتلاف الوطني السوري أحمد معاذ الخطيب... بانتظار أن تهدأ الأحوال ويلتقط عقلاء سوريا أنفاسهم ليخوضوا حوارا هادئا على دستور نهائي للدولة.

بعد كل ما حدث ويحدث من تجاوزات، لم يعد مسموحا تجاهل دور الضغائن الطائفية في تأجيج العنف على أكثر من جبهة من جبهات المواجهة في سوريا. والمؤسف أن ما بدأ مجرد انتفاضة شعبية، سقفها الإصلاح السياسي، تحول «بحكمة» النظام وتعنته، إلى حرب أهلية، تنامى دور العامل المذهبي فيها إلى حد الترويج لمخططات تقسيم على أسس مذهبية وإثنية.

لا جدال في أن للمجتمع السوري خاصيته (وتجاهل النظام لهذه الخاصية أحد دوافع الثورة عليه)، فهو المجتمع العربي الأقرب إلى المجتمع اللبناني في تعدديته الطائفية والإثنية، مما يسمح للبنانيين أن يقولوا للسوريين: «نحن السابقون.. وأنتم اللاحقون». وصلتم إلى مرحلة بات المطلوب فيها ما كان مطلوبا لنا عام 1989: تدخل عربي مباشر يطرح تسوية «لا تقتل الناطور ولا تفني الغنم». باختصار، «اتفاق طائف» سوري هذه المرة.

حبذا لو يتقدم رئيس الائتلاف الوطني السوري بصيغة تسوية «لبنانية» مرحلية للنزاع المسلح - مع التشديد على وصفها بالمرحلية - بحيث تشكل أرضية تفاوض مع النظام على هدنة عسكرية - سياسية تتيح للسوريين العودة لاحقا إلى طاولة حوار وطني تبحث عن حل نهائي للصراع بعيدا عن توترات وتشنجات المرحلة الراهنة. عندئذ، يصبح بإمكان الجامعة العربية أن ترعى حلا سوريا لنظامها على غرار الحل الذي أنهى حرب لبنان الأهلية عام 1989.

إذا كان ثمة أمل في نظام سوري بعيد عن الاستبداد البعثي أو التعنت المذهبي، يحمل قدرا وافرا من الديمقراطية ويحافظ على وحدة البلاد، فقد يتحقق في نظام «طائف» سوري، يعترف بالحقوق السياسية لكل شرائح المجتمع السوري، ويضمن تمثيلها المذهبي على المستويين التشريعي والتنفيذي وفق كوتا تحددها أحجامها العددية (كما في لبنان)، فيقطع الطريق على تسلط فئة على أخرى، بحكم تحول الحفاظ على «التعايش» المذهبي والإثني إلى ضمانة لاستقرار سوريا وسلمها الأهلي.

هذا لا يعني أن شرعنة «تطييف» أو «تمذهب» سوريا هو الحل الأمثل لأزمة النظام ولكنه الحل المتاح، على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» اللبنانية، لكل من يتوخى تجنب الأسوأ، وتحديدا تقسيم سوريا.

شعار «لا غالب ولا مغلوب» - رغم فراغه السياسي - أظهر أن اللبنانيين قادرون على احتواء خلافاتهم السياسية في إطار مفهوم «وطني» للتعايش المشترك بين كل الطوائف والمذاهب، وهو مفهوم يتحول باطراد إلى قاعدة راسخة لديمقراطية توافقية، لا تزال صامدة على مر تجاربها المؤلمة.

وفي هذا السياق، يمكن لـ«لبنان الأقليات» أن يثبت للمنطقة، أكثر من أي يوم مضى، أنه ليس دولة مضافة إلى خريطة الشرق الأوسط، بل دولة تحمل تسوية – ولا نقول رسالة - تصح أن تكون نموذج حل ظرفي لعقدة الأقليات في المنطقة، علما بأن «لبننة» سوريا قد تساهم في إحباط تطلع بعض الأقليات الطائفية في لبنان للتحول إلى «أكثرية الأقليات» في بلدها، بدعم قوى خارجية تبحث عن موطئ قدم لنفوذها الإقليمي.

واللافت على هذا الصعيد أن تكون إيران الجهة الأسرع إلى استغلال مظاهر «اللبننة» في الوضع السوري الراهن، فما تداولته وسائل الإعلام عن تخطيط إيراني لتأسيس فرع سوري لحزب الله يعكس رؤية بعيدة المدى لشرق أوسط يلعب فيه العامل الطائفي دورا قابلا للتوظيف في خدمة استراتيجيات إقليمية.

«سوريا الأقليات»، ولا سوريا المقسمة، هو شعار المرحلة في سوريا والمدخل الواقعي لتسوية مؤقتة تمهد لحل نهائي لأزمة النظام السوري.

وإلى أن تعود دمشق إلى لعب دورها التاريخي «كقلب العروبة النابض» تبقى «لبننة» سوريا المدخل الواقعي للحفاظ على وحدة ترابها واستقرارها السياسي والاجتماعي.