فساد نظرية «معتدلون» و«متطرفون»

TT

ولد سفر تكوين الموضوع genesis of the column مع فتاوى قبيحة تبرر اغتيال الزعيم التونسي شكري بلعيد وتحشد مظاهرات لتأييدها، تبعها إمام مسجد الشربتلي (حيث يصلي رئيس الجمهورية المصري أسبوعيا) بإدانته التقارب بين الأديان «كفكرة سيئة»؛ ثم نضج الموضوع بمشاركتي في حوار تلفزيوني مع سياسي تونسي ومتحدث الخارجية الأميركية، وأكاديمية أميركية.

المشاركان الأميركيان صنفا «الإسلام السياسي» إلى «معتدلين» و«متشددين»، يعرفون أيضا بمتطرفين وجهاديين، وسلفيين، أو إرهابيين عندما تزهق ممارساتهم الأرواح عمدا أو مصادفة.

يقع كثيرون في فخ التقسيم إلى معتدلين ومتشددين.

النشطاء الإسلامويون islamists (إضافة «يون» أو «يين» المقابل للإنجليزية «ist» تجعل الصفة اسما للدوغماتيين بالأيديولوجية الإسلاموية، فيسمون إسلاميين كحال الستالينيين Stalinist أو الفاشيين fascists). عمليا، فإن الأجهزة الأمنية ترى غير المسلحين، أو من لم يضبطوا متلبسين في جريمة إسلامويين، «معتدلين»، حتى ولو أفتوا بتكفير الناس وإهدار دمائهم عبر شاشات الفضائيات.

هناك إسلامويون تحولوا جهاديين يغتالون الخصوم، وقد تبلغ بهم الكراهية حد تدمير النفس لقتل من يخالفهم من المسلمين، كالانتحاريين في السعودية ومصر والأردن.

ترويج فكرة التغيير بالعنف أو الاقتناع بها، غالبا لا يجعلان من الناشط السياسي إرهابيا في نظر القانون، ولكن، من الناحية الأخلاقية، هل نعتبره معتدلا؟

أمثلة لا تحصى عن شباب يحولون حياة جارة أو زميلة جحيما لا يطاق لإجبارها على تغيير ملبسها (أو تصاب بانهيار عصبي)، لم يرتكبوا جريمة يحددها القانون، هل نعتبرهم معتدلين؟

لا يوجد قانون جنائي يدين شخصا على نياته أو على ما يفكر فيه (وإن كان محامو «الإخوان» ومحامون إسلامويون يقدمون بلاغات للنيابة تطالب بمحاكمة الفنانين والكتاب والشعراء على أفكارهم). فقط، إذا ثبت بالدليل المادي أن المتهم مارس وشارك في ارتكاب عمل عنيف، يمكن إحالته إلى المحكمة، وفي هذه الحالة يسهل نقله من دائرة المعتدلين إلى دائرة المتطرفين.

كل البلدان (تقريبا) التي تحترم استقلال القضاء، تتضمن قوانينها الجنائية جنحة التآمر لارتكاب جريمة، ويشمل التآمر تسهيل مهمة الجاني أو التستر عليه، أو مساعدته على الهرب، أو تحريضه (بلدان كثيرة تصنف التحريض على القتل أو على الإيذاء جريمة وليس كجنحة)، أو مكافأته، أو وعده بمكافأة مادية أو عينية أو إغرائية.

الجنح أدرجت ضد أبو حمزة المصري في محكمة إنجليزية بعد تقديم الادعاء أدلة على تآمره مع شباب ارتكب جرائم اختطاف وإرهاب بالتحريض عليها وفتاوى تبريرها.

الشيخ عمر عبد الرحمن، حكم عليه بالسجن في أميركا بعد تقدم الادعاء للمحكمة أدلة تآمره على تفجير مركز التجارة العالمي، إلى جانب التحريض عليه وتبريره لمرتكبيه بفتاوى ووعود دخول الجنة.

عبد الرحمن أو أبو حمزة أو دعاة تكفير بلعيد ونبش قبره، والذين أصدورا فتاوى تكفير الخصوم السياسيين - لم يحمل أحدهم سلاحا أو يفجر الخصوم. ولولا سقوط ضحايا نتيجة تحريض وفتاوى وخطب ووعود أبو حمزة وعبد الرحمن، لكان الرجلان صنفا «معتدلين» يمطراننا بفتاوى التكفير من على شاشات الفضائيات.

وربما لا يمسك بعض الأئمة سلاحا ناريا يوجهه لصدور خصومهم، لكني أشك في أنهم سيدينون مبدأ الاعتداء بالسلاح أو اليد أو اللسان على الخصوم، ويستشهدون بآيات قرآنية تحرم العدوان والإيذاء والسب، ليحذروا المصلين بأن العنف وتكفير الخصوم ذنب ينهى عنه الإسلام.

ما أصادفه من أدلة وملاحظات (لست وحدي، بل يدونها معلقون عقلانيون كعبد الرحمن الراشد الذي تناول واقعة إمام مسجد الشربتلي)، يقوض نظرية تقسيم الإسلام السياسي إلى معتدلين ومتشددين.

تصنيف «معتدلين»، تعني شهادة صلاحية الإمساك بالميكرفونات وبتراخيص قنوات يبثون منها فتاوى تكفير الخصوم والتحرش بغير المحجبات والعبث بعقول الشباب. مهمة المعتدلين تتجاوز مجرد الترحيب بالمتطرفين وتوفير استديوهات لبثهم بروباغندا الجهاد العنيف ضد الخصوم.

وبالجدل الفلسفي: لولا تطرف وعنف المتشددين (باغتيال الخصوم، وحرق الكتب، ومهاجمة المسارح، والاعتداء باللفظ واليد على غير المحجبات)، ما كنا نسمي المعتدلين معتدلين وما كانوا أمسكوا بالميكرفونات وتراخيص البث الفضائي.

إدارة الرئيس أوباما عقدت الصفقة مع الإخوان «كمعتدلين»؛ وهم الآن في قصر الرئاسة، فهل سمعنا من كبيرهم أو من مكتب الإرشاد، أو من منابرهم، دعوة أو وعدا بحل الميليشيات السرية المسلحة؟

أو هل سمعنا منهم اعتذارا عن عنف وإرهاب ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي واغتيال القضاة وتفجير دور السينما، ولو تسترا بورقة توت أكاديمية تسمى revisionism أو تصحيح الرؤية بمراجعة تاريخية للماضي كمرحلة مؤسفة لا يجب العودة إليها فعلى الناس الاطمئنان؟

وهناك أمثلة كاعتذار منظمة الجيش الجمهور الآيرلندي عن إرهاب الماضي بعد مصالحة الجمعة العظيمة ومشاركة الحكم مع الخصوم التاريخيين في آيرلندا الشمالية.

لم نسمع من الإسلامويين مراجعة للتاريخ أو فتاوى تحرم العنف، بل على العكس سمعنا، ممن تصنفهم إدارة أوباما بـ«معتدلين»، فتاوى تكفر الفنانين والكتاب والخصوم، وتعتبر تقارب الأديان «فكرة سيئة».

ويشمل «المعتدلون» من يعتبرهم البعض علماء ودعاة وفقهاء يفتون في كل شيء من نقل الأعضاء والأقمار الصناعية حتى ممارسة الحب ودخول الحمام، وتستقبلهم الحكومات بالبساط الأحمر ويبشرون بالدعوة في الفضائيات، لكنهم يمنعون من دخول عواصم الديمقراطيات الكبرى، لأن «وجودهم ضار بالسلام الاجتماعي». عواصم بلدان، الكلمة الأخيرة فيها للقضاء المستقل، ولا يمكن لحكومة ديمقراطية رفض تأشيرات دخولهم إلا بعد الرجوع للمحكمة وتقديم المحامين أدلة مادية تثبت للقضاة المستقلين أن ما يروجه ويدعو إليه هؤلاء العلماء والفقهاء «المعتدلون» هو تحريض على العنف، وتحفيز للجهاديين المتطرفين يدخل قانونيا ضمن جنح التآمر على ارتكاب جرائم يعاقب قانون البلاد عليها.

وإذا كان «معتدلا» إمام مسجد قاهري يرى تقارب الأديان «فكرة سيئة»، فالفكرة الأسوأ هي تقسيمة: «المتطرفين» و«المعتدلين»؛ لأنها مثل أفلام الجريمة المنظمة بشخصيتي الشرطي الشرير، والشرطي الطيب، وغرضهما واحد: تلفيق التهمة للضحية الموقوف لتبرئة البوليس الغارق حتى أذنيه في مستنقع الفساد. المعتدلون والمتطرفون وجهان لعملة الإسلام السياسي، والغرض من صرفها واحد: السيطرة على المجتمع وأفراده وحياتهم، إما بالعنف الجسدي أو بالابتزاز العاطفي أو الديني في أدمغتهم عبر قنوات ما يسمى الاعتدال.

تابعوا الكاتب على «تويتر»

@AdelDarwish