الحكم باسم الإسلام.. حاليا

TT

يحاول عدد غير بسيط من الساسة والمحللين التمعن بدقة وعمق في تجربة الارتباك والتخبط والفشل السياسي، الذي أصاب الجماعات والأحزاب الإسلامية في تونس ومصر وليبيا تحديدا بعد ثورات الربيع العربي، التي أطاحت بأنظمة الحكم في هذه الدول. ولعل الصفة الأهم والأخطر التي من الممكن أن تطلق على هذه المجاميع السياسية هي أنها «إقصائية» وبامتياز، فهي كلها عجزت عن استيعاب أطياف المجتمع في بلادها لتكون ممثلة لها جميعا، وخصوصا أنهم أتوا في مرحلة دقيقة جدا عقب ثورات دموية ومتوترة وقلقة. فهذه المجاميع كانت دوما في خانة المعارضة، والمعارضة السرية والمحظورة تحديدا، بسبب قمع الأنظمة السابقة لها، وعليه، فهي عادت بنفس انتقامي واضح وصريح زاد من تفتيت وتخوين المجتمع بين بعضه البعض ولا شك.

الإرث السياسي في الفكر الإسلامي عموما هو مادة ضحلة جدا، فبينما من الممكن أن نجد العشرات من المجلدات والكتب عن فقه الطهارة وفقه العبادة وغيرهما من المواضيع، فإن الكتب التي تغطي «الفقه السياسي» هي بسيطة جدا، ولا يوجد فيها إجماع بين جمهور العلماء، ولا المفهوم نفسه، مما يعني أن المسألة فيها اجتهاد واسع جدا وليس لأحد أن يدعي أنه وحده فهم مقصد الشارع والمشرع. وبالتالي يفرض هذا الفهم على غيره، ناهيك عن أن هذه المجاميع لم تتبع الهدي المحمدي نفسه، على صاحبه أزكى صلاة وأتم تسليم، في المشهد العظيم من سيرته العطرة حينما فتح مكة، وكان خصومه يخشون من ردود الفعل عليهم، فأطلق سيد الخلق، عليه الصلاة والسلام، على هذا اليوم العظيم «يوم المرحمة» وقال قولته المعروفة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، في إشارة لشخصية من أبرز الشخصيات المعارضة وقتها، ثم أضاف: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، دون عقاب ولا حساب ولا مراجعة ولا انتقام، وهي الفكرة العبقرية العظيمة الخالدة التي استلهمتها شخصيتان مهمتان من أهم ساسة القرن العشرين: الزعيم الهندي غاندي والزعيم الجنوبي أفريقي الفذ نيلسون مانديلا، فكلاهما قام بصفح تام عن خصوم وأعداء ومعارضي الأمس، وأدخلهم في الفريق السياسي الحاكم، وكانوا بالتالي جزءا من الحل، وليسوا جزءا من المشكلة، وهذا هو الفارق بين الحكمة والنضوج السياسي واللعب والمراهقة فيها.

مسؤولية تمثيل وادعاء الدين في الحقل السياسي تتحمل مسؤولية أخلاقية أكبر وأعظم وأهم، لأن الضرر في الإخفاق تكلفته أخطر بكثير. والأمثلة والمشاهد التي ترجح هذا القول كثيرة في مشاهد تونس ومصر وليبيا، وكلها مخيبة للآمال ومحبطة.

راشد الغنوشي وحزبه النهضة كانا من الممكن أن «يترفعا» عن الذات والـ«أنا» ويقبلا بدعم مهمة الجبالي، بأن يكون لتونس وزارة غير حزبية تسيّر شؤون البلاد في الفترة الحرجة دون ادعاء أن ذلك هجوم واعتداء.. كيف ذلك، والجبالي نفسه يمثل الحزب الحاكم؟! ولكنها سياسة الإقصاء والاستقواء.

وكذلك الشيء نفسه، ينطبق على ما يحصل في مصر مع حكومة الرئيس محمد مرسي ورئيس الوزراء هشام قنديل، الذي يجمع القطاع الأكبر من المصريين على فشله الذريع في إدارة شؤون البلاد، وأن المنصب أكبر منه، وأنه لا قدرة لديه على إدارة الملف الاقتصادي، وهو الملف الأكثر خطورة، ومع ذلك يستمر التمسك بالرجل من باب «العناد والكبرياء»، ليس أكثر، وكذلك بالنظر باستهزاء لمطالب قطاع عريض من الشعب بأنهم «همج» و«بقايا النظام الفاسد».. هي طريقة مهينة وفيها مشاهد حزينة وبائسة تذكّر بالأسلوب نفسه الذي كانت تتبعه الأنظمة التي قامت عليها هذه الثورات في المقام الأول.

النهج المحمدي، على صاحبه أزكى صلاة وأتم تسليم، لا علاقة له البتة بمن يدعون السير عليه اليوم في الساحة السياسية باسم الإسلام، فما كان سيد الخلق منتقما ولا مشككا ولا لعانا ولا خوانا، وطالما استمر نهج الحكم باسم الدين يولد هذه الأعراض الاجتماعية الباعثة على التفريق والتشتيت والتمزيق والفتن، وادعاء أن فصيلا «وحده» لديه الوكالة الحصرية للتحدث وللفهم وللحكم باسم الدين، ستزداد الفرقة والفتن والشروخ داخل أوساط المجتمعات، وتكلفة هذا الأمر باهظة جدا لن تتحملها الحكومات ولا الشعوب، لأنهم سيبيتون في حالة «سداد» لها يدوم أجيالا بأكملها، فهكذا هي الفتنة العظيمة. هذه المجاميع وصلت إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع الديمقراطية، والديمقراطية لها معايير تعنى في الأساس باحترام حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والوحدة الوطنية، وهذه مسائل بعيدة وغائبة تماما عن الفهم الحاكم اليوم باسم هذه المجاميع، ولذلك التجربة تبدو قلقة ومضطربة، وإلى الفشل مصيرها!

[email protected]