ثورة الحرامية

TT

لقد غدا الفساد نمطا شائعا في جل هذه الأنظمة الثورية، أقصد بها الدول التي حصلت على استقلالها وحكم أنفسها بالثورة وأقامت نظامها باسم الثورة. حيثما أجلس في هذه الأيام أجد القوم يتساءلون: كيف نقضي على كل هذا الفساد؟

طالما قلت ورددت ما أقول وجنيت الشتائم والاتهامات كلما قلت إن ما سميناه بالحركة الوطنية كانت حقا حركة الحرامية؛ ففي العهد العثماني كان الفساد شائعا ومنظما، وكان «الأفندية» والباشاوات يسلبون الناس جهرا رشى واختلاسات وسرقات. جاء الاستعمار وطرد العثمانيين ومنع كل ذلك. عهد الانتداب البريطاني على العراق (1920 - 1932) كان أنظف عهد عرفه العراقيون طوال تاريخهم. لم أسمع ولم أجد في الكتب والصحف خبر أي سرقة أو رشوة جرت. السرقة الوحيدة التي قرأت عنها تعلقت بحيازة المستر كوك أثرا تاريخيا صغيرا أخذه معه عند عودته إلى بلده. قرأت عنها في قصيدة عبود الكرخي:

لا تقول انهزم كوك

لا تقول لو يحبسوك

حققوا معه في بريطانيا وثبت عدم صحة التهمة. بالطبع سرق الإنجليز والألمان جل الآثار النفيسة من العراق ومصر، بيد أن ذلك جرى عندما كان العثمانيون يحكمون البلاد وليس عندما تولوا الحكم هم أنفسهم. وبعدما سمعت عن حرق المكتبة الأثرية في تمباكتو ونهب المتحف العراقي في بغداد، أصبحت أشكر الأوروبيين على سرقاتهم. يظهر أن رجال الشرطة المحلية كانوا يهابون الصوجر (الإنجليزي) فلا يجرؤون على قبض نصف روبية من سائق سيارة مخالف. الحرامية الوحيدون الذين تنعموا في ذلك العهد كانوا من الإنجليز أنفسهم. كانوا يحصلون على النفط بسعر زهيد. ولكن هذا موضوع يتطلب خدمات محاسب قانوني. هل ثمن ما سرقوه من سعر النفط أكثر أم أقل من تكلفة حكمهم للعراق، وتوطيد الأمن والنظام فيه، والدفاع عن حدوده ووحدته، وحماية مياه أنهره وسواحله، وصيانة آثاره وأوقافه، والإنفاق على ما احتاج إليه من خدمات؟

بالطبع لم يعجب هذا الوضع الأفندية والباشاوات والمرجعيات فثاروا وطالبوا بالاستقلال. حصلوا عليه وعاد القوم إلى سابق عهدهم شيئا فشيئا حتى اكتمل نصاب الفساد في أيامنا هذه، في العراق كما في الدول الثورية المشابهة. ينهبون كما يحلو لهم. ولكنهم ينهبون وهم ينشدون أناشيد العزة والكرامة والسيادة الوطنية. وهنا سنحتاج إلى خدمات المحاسب القانوني مرة أخرى. هل العزة والكرامة أثمن أم أرخص من الفوضى وضياع الأمن والاستقرار وسلامة أرواح الناس؟ وحتى نحصل على مثل هذا المحاسب القانوني، أترك القارئ ليفتش في ضميره ويحكم.