معركة جز رؤوس التماثيل

TT

«الحي أبقى من الميت»، والحزن اليوم ليس على رأس أبي العلاء المعري الذي جز ليفصل عن جذعه، ولا على رأس طه حسين الذي أخفاه حاقدون لا يجيدون أفضل من الإجهاز على تماثيل الموتى. الخوف هو من ذهنيات باتت ترى في الفكر المختلف «بعبعا» يستحق الاغتيال، وفي بعض الرموز الكبيرة التي صنعت مجد هذه الأمة أعداء ألداء يتوجب التخلص منهم.

بعد ألف سنة على وفاة أبي العلاء المعري ودفنه في معرة النعمان، ونحو سبعين سنة من وضع تمثاله هناك، يتذكر البعض أن في كتابة «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء» ما يزعج خاطرهم، فيقتصون منه. وبعد عشرات السنين من تكريم «عميد الأدب العربي» في محافظة المنيا، يأتي من يريد أن ينتقم ويتشفى.

في أدبنا القديم والحديث محافظون وأحرار، وثمة زنادقة وماجنون، متصوفة وزهاد، ومؤخرا رأينا تكفيريين وتوفيقيين وليبراليين، عاشوا جميعهم في هذه المنطقة، ولم يتمكن أي منهم من أن يفني الآخر أو يلغيه. هذا هو تاريخنا وهكذا هم أسلافنا، وتحديدا، في اللحظة التي بلغ فيها هذا التنوع ذروته شعت الحضارة الإسلامية هالتها الكبرى، التي لا نزال نفاخر بها إلى اليوم، ونتمنى لو نسترجع بعضا من زهوها وعظمتها. تنقية التاريخ وتعقيمه، وشطب الأسماء التي لا نرغب فيها أو حذف الكتب التي لا نحب وإحراقها، تزوير ساذج لا يصمد ولا ينفع. كتب سوريون على الـ«فيس بوك» ردا على قطع رأس أبي العلاء: «هجمتكم لن تدمر فلسفة المعري، الأفكار لا تموت». وسبق للبعض أن حاول طمس فكر الجاحظ، كرها في المعتزلة، ومقتا لقيمة العقل في كتاباته، فجاءت النتائج عكسية. وها هو الرجل يتربع على عرش النثر العربي سيدا مبجلا، وسيبقى كذلك.

لم يسلم طه حسين حيا من النقد والاتهام بالكفر، لكن كتاب «الأيام» وحده، وقبل أن تضيف إليه عشرات الكتب التي ألفها، فيه من عبقرية الفكر وبلاغة اللغة، ما هو كفيل بتأمين المجد لصاحبه لسنوات طويلة جدا مقبلة. طه حسين ليس مجرد كاتب أعجب بالغرب، كما يريد أن يختزله الكارهون. إنه مفكر عربي مصري، أصاب وأخطأ، عاند في أحيان كثيرة وتراجع في أحيان أخرى، وفي نهاية حياته سجل مواقف تكاد تكون شديدة المحافظة، لمن يقرأ بتمعن. تبقى أهمية الرجل الكبرى في أنه صاحب رؤية وطنية مخلصة وجريئة، أراد من خلالها أن يرى مصر تضج ازدهارا وعقلا.

ما يحدث اليوم محاولة يائسة ممن لا يعترفون إلا بشطر من التراث، بإلغاء الشطر الآخر، دون الاتعاظ من تجارب سبقت، أو التعلم من أخطاء ديكتاتوريات سقطت. فالتيارات الدينية التي سُجنت وعُذبت ونُفيت، لم يتمكن أكثر من نصف قرن اضطهاد من محوها، فكيف يمكن لهؤلاء أنفسهم أن يمارسوا اللعبة الفاشلة عينها؟!

يسأل نادي الأدب في المنيا، إن كان المثقفون سيقومون بدور فعال لإعادة تمثال طه حسين إلى مكانه، أم أنهم سيضعون رؤوسهم إلى جواره؟ السؤال مشروع بعد أن انطلقت حرب جز الرؤوس الفكرية. ماذا سيفعل السوريون بدورهم؟ هل سيسقطون أبا العلاء من مناهجهم؟ وهل سيتبرأون من إقامة أبي نواس في حلب ومن آثاره هناك؟ وهل ستحرق جبهة النصرة دواوينه؟ وماذا ستفعل بما هو منشور على الإنترنت، وقد أصبح الشعر عصيا على المصادرة بعد أن توزع في فضاء إلكتروني هائل وفسيح لا يعترف بالصدور الضيقة؟

ثمة من يفكر اليوم في التخلص من التماثيل الفرعونية، التي لم يخطر ببال المسلمين الأوائل هدمها أو حتى تشويهها، بل بقيت كشهادة بينة على سعة في العقل ونضارة في الذهن، وهناك من ينهال على الآثار في سوريا بالهدم، وفي أحسن الأحوال يبيعها كي يستفيد من ثمنها ويتخلص منها في وقت واحد. تدمير تماثيل الكتّاب العقلانيين، يأتي في سياق متكامل، يهدد بتمدد من الماضي إلى الحاضر، بهدف رسم مستقبل، لا صوت فيه إلا لفئة واحدة.

قبل الثورات العربية، كانت دعاوى الردة والتفريق بين الأزواج، تقض مضاجع المفكرين والكتّاب. اليوم صارت الاتهامات والتهديدات تطال ممثلين ومطربين، وتحاسب أعمالا فنية. نبش سير الموتى هو الجديد الذي ينذر بأن الظاهرة إلى تصاعد، وأن من حاول قص رقبة نجيب محفوظ حيا، قد لا يرأف به ميتا.

من مهازل الأقدار أن الكاتبين المستهدفين بقطع رأسيهما، ضريران، فقدا بصريهما في الطفولة الأولى وعاشا في ظلام الدنيا ليبصرا أنوارا من نوع فريد، لا يمكن إطفاؤها بسهولة. والكاتبان تعذبا وذاقا من آلام هذا العالم وقهره ما جعلهما إرادتين فولاذيتين، وعقلين قويين، بقدر ما تبصرا، اعتنقا الشك أسلوبا ونهجا.

«أما اليقين فلا يقين وإنما.. أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا».. قال ذات يوم صاحب «رسالة الغفران»، ربما في رد مسبق على من يحاسبه اليوم، ممن يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.