العروبة بين الطائفية و«الجهادية»

TT

ألح طبيب ثقيل الظل على جاره الأديب الفرنسي إسكندر ديما(س) أن يقدمه إلى زبائنه «بالتي هي أحسن». فكتب الأديب في دفتر الطبيب: «عندما حل الدكتور جستال في بلدتنا، هدمنا المستشفى الذي لم يعد له لزوم». فصاح الطبيب شاكرا. وهنا أضاف الأديب: «ووسعنا المقبرة».

منذ أيام قليلة، هدد الدكتور بشار الأسد السوريين بفتح عيادة لممارسة الطب، إذا لم ينتخبوه رئيسا للمرة الثالثة، في العام المقبل. واستبق التهديد بإرسال الطيران، ليهدم مستشفى ميدانيا في درعا غاصا بالجرحى.

تنظيم «الائتلاف» المعارض اتهم «الجهاديين» بفتح مقبرة للسوريين في أجمل شوارع الطبقة الوسطى في دمشق. وهكذا، لا فرق بين عيادة بشار ومقبرة «الجهاد». فالسوري الصالح هو السوري الميت.

سكنت في حي المزرعة، قبل أن يتحول إلى مقبرة. وكان جاري وزير الدفاع آنذاك الفريق حافظ الأسد الذي أصبح بعد حرب «النكبة» قائد المسيرة في حي أبي رمانة المرفّه. وكان الأب «بعيد النظر» على خلاف ابنه دكتور العيون. وحسب شعار النظام (الأسد إلى الأبد)، فقد أوصى الأب بأن يدفن، إذا مات، في عاصمته «قرداحة». فهو يعرف تماما ماذا سيفعل «الجهاديون» بقبره، لو أنه أقامه في دمشق.

أود هنا أن أصارح، بحب وإخلاص، من يرعى «جبهة النصرة» أن سوريا غير العراق. قبل الثورة، لم تكن هناك أسلاك شائكة تفصل بين الأديان والمذاهب والطوائف. فقد تعايشت مئات السنين. أضرب مثلا بحي الميدان السني المحافظ. ففي قلبه حي للدروز. وأحياء للمسيحيين لهم فيها أقدم الكنائس والكاتدرائيات في التاريخ. يعبر الناس الأحياء المتداخلة بتعاطف لا تعرف فيه من هو المسلم. أو المسيحي. أو الدرزي.

وحتى بعد الانتفاضة وتحولها إلى ثورة، ظل الاحتكاك الطائفي والمذهبي مقتصرا على مناطق التعايش الكثيف، في حمص (الوسط) وإدلب. والساحل (في الشمال والغرب). ولعب النظام الطائفي. ثم «الإسلام الجهادي» دورا كبيرا، في تأجيج الخوف. والعداء. والاعتداء. ومع كثرة الحديث عن التقسيم، ما زلت أراهن على أن مشاعر الخوف سوف تتلاشى بين الطوائف والمذاهب، حالما يعود الهدوء والسلام. وستسقط حواجز التقسيم في سوريا، تماما كما سقطت في العراق ولبنان. وأعود بالإخوة العرب الغيورين على إسلام سوريا وعروبتها، لأذكرهم بأنها عندما سقطت في قبضة الاستعمار الأوروبي، في القرن الماضي، قسمت. ومزقت طائفيا. ومذهبيا إلى خمس دويلات، ما لبثت أن عادت، فتوحدت جسدا وطنيا واحدا، بعد سنوات قليلة، تحت ظلال العروبة التي تجاوزت الطائفة والمذهب.

في كل ما كتبت عن سوريا الانتفاضة والثورة، وعن لبنان الحرب الأهلية، كنت الوحيد الذي يسمي الأحداث ومحركيها، حسب الاتجاهات الطائفية والمذهبية. في الثورات، تسقط البراقع. ينهار أدب المجاملة. تتهاوى أردية الخوف، عندما يغدو الإنسان قتيلا. ممزقا. عاريا. عندها تريد الأمة أن تعرف هوية القاتل. وانتماء الضحية. ماذا جرى. ويجري في سوريا. لبنان. العراق... لكي تؤكد إيمانها بأن عروبة الثقافة. عروبة العاطفة واللغة هما المنقذ والملجأ الوحيد لها. وأن ما يجمع هو أقوى وأسمى مما يفرق. ولكي تؤمن بأن المساواة في الحق والواجب هي التي يجب أن تجمع بين الأغلبية والأقليات.

بل في المساواة، ليست هناك أغلبية وأقلية. هناك المواطنة التي تجمع. هناك دولة القانون التي تعامل المواطن بمساواة. لا فرق بين عربي. كردي. سني. شيعي. علوي.

هكذا الدولة الحديثة. المؤسف أن الدولة العربية دولة معاصرة. دولة ذات ثقافة أحادية، بما جاءها الدين من معان أخلاقية، وفضائل اجتماعية سامية. وهي دولة ذات ثقافة شمولية. لم يستطع مجتمعها المحافظ أن يضيف، إلى ثقافته الدينية، ثقافة إنسانية. تعددية.

عملت في الصحافة اللبنانية، أكثر مما عملت في الصحافة السورية. الصحافة لا دين لها. ولا مذهب. كان الرئيس شارل حلو (1964/ 1970) يداعب الصحافيين اللبنانيين كلما التقاهم: «أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان». وأي صحافي لبناني يعرف ماذا كان يعني الرئيس الراحل، بهذه الدعابة المؤلمة.

لكن لم يسألني صحافي لبناني واحد عن هويتي. عن انتمائي السياسي. بل دعاني زميلي الراحل ميشال أبو جودة إلى العمل في «النهار» يوم كان رئيسا لتحريرها. فعل ذلك طلال سلمان رئيس تحرير «السفير».

وكان الراحل سليم اللوزي يدعوني إلى العودة إلى «الحوادث» كلما عاودني الحنين إلى سوريا.

ثم كان العصر الإسرائيلي في لبنان قاسيا عليّ، وحتى عندما ذهبت إلى أوروبا، مع الصحافة اللبنانية الهاربة من الحرب الأهلية. لا أنسى زميلا جاءني يوما في باريس، ليقول لي إن زوجة ناشر المجلة التي أعمل فيها، تريد أن تخفف المجلة لهجتها المعادية لإسرائيل. وكانت إسرائيل آنذاك تحتل بلده لبنان!

ثم أدركت الصحوة اللبنانيين. رفضوا إسرائيل. أخرجوها بالقوة من لبنان. ثم طردوا النظام العلوي السوري المتحكم بلبنان (2005). وها هم اليوم يراهنون على العروبة. الفضل في ذلك لدول الخليج. وفي مقدمتها السعودية. كان الاستثناء الوحيد «حزب الله» الذي يراهن على إيران، ومعه حليفه الأصغر ميشال عون الذي استقر أخيرا على باب الدكانة الإيرانية.

نعم، الفضل للسعودية في اقتراب معظم الموارنة من الخليجيين. لم تحتل السعودية أرضهم. لم تطالبهم بتغيير دينهم. لم تفرض على زعمائهم ولاء. وانتماء. آل الجميل أسرة مارونية سياسية. وقبل ذلك، فهي في جذورها أسرة عربية قدمت مارونيتها على عروبتها. وها هي اليوم، بحكمة عميدها الرئيس الأسبق أمين الجميل، تقترب من العروبة. وهي في بعدها واقترابها، لم تعرف عداء لها بين الخليجيين، وفي مقدمتهم السعوديون.

أسس جبران تويني (الجد) صحيفة «النهار» العروبية في ذروة الاحتلال الاستعماري (1933). تزوج نجله غسان فتاة درزية ابنة دبلوماسي درزي عروبي مثقف. تقلبت السياسات بـ«نهار» الراحل غسان. وظل صديقا ودودا للسعودية. لأن السعودية تحافظ على الصداقات. ولا يهمها تقلب السياسات.

الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يفاخر بعروبته، كوالده الزعيم الاشتراكي الراحل كمال جنبلاط، وكجده الأمين شكيب أرسلان. وفرضت مصالح الطائفة الدرزية الصغيرة أن تتغلب السياسة بوليد بيك. فلم تخاصم السعودية الأب والابن. فهي تحفظ لهما إيمانهما بعروبة لبنان. وها هو وليد ونجله تيمور في ضيافة الرياض منذ أيام قليلة.

الطرح الأرثوذكسي الطائفي يؤلم السعودية، ليس لكونها دولة تعتز بإسلامها وعروبتها. لكنها - كالرئيس اللبناني ميشال سليمان - تخشى على مكانة عروبة لبنان، وعلى دور لبنان العربي، من مشروع طائفي يفرض على مسيحيي لبنان أن ينتخبوا نوابا مسيحيين فقط، وأن يحرموا أنفسهم من حقهم الديمقراطي في المشاركة بانتخاب نواب مسلمين، فيما كشف حزب الله عداءه للديمقراطية وللعروبة، بتأييده المتحمس للطرح الأرثوذكسي. الطائفي.

قدمت هذه الصور المختلفة عن علاقة العروبة بالدين والطائفية في سوريا ولبنان. وكلي أمل في أن يراهن الأشقاء في الخليج على عروبة سوريا. فإسلام سوريا المعتدل بخير. ولا خوف عليه. ونظامها الطائفي زائل آجلا أو عاجلا. إنما الخوف من تنظيمات تفصل دينها عن عروبتها. وتريد أن «تؤسلم» دمشق بأطنان المتفجرات.