ياسين بقوش.. فنان أم ثوري؟

TT

نعى المناصرون للثورة السورية، الفنان السوري الشهير ياسين بقوش باعتباره من شهداء الثورة.

حسبما أكد مجلس الثورة السورية، فإن الممثل السوري ياسين بقوش قضى بعد استهداف عناصر نظامية له وهو في سيارته في حي العسالي بقذيفة «آر بي جي»، وقال ناشطون سوريون إن مصدر القذيفة هو النظام السوري، واعتبروا الفنان «شهيداً للثورة السورية» مؤكدين أنه كان مناهضاً للنظام.

بداية، الرحمة للفنان ياسين، وهو لمن كان يشاهد التلفزيون في منتصف وطيلة عقد الثمانينات، يعتبر صورة جميلة وبريئة من صور الطفولة والصبا، بشخصيته الطيبة «الدرويشة»، وبلقبه المحبب «ياسينو»، وهو عاجز الحيلة مع مقالب غوار الطوشة، وقسوة أبي عنتر، وزين الشباب، وقبضاي الحارة، في مسلسلات «صح النوم» و«حمام الهنا»، وغيرهما.

كان كما قال ناعوه، طيبا حتى في حياته الحقيقية، وهو علامة من علامات القوة السورية الناعمة، المتجسدة في الفن والثقافة والشعر، فمن منا ينسى نزار قباني ومحمد الماغوط ودريد لحام، ورفيق سبيعي، وطلحت حمدي، ومنى واصف، وفهد بلان، ومن منا يجحد فضل وعلم وأدب، محمد كرد علي، ورضا كحالة، وعلي الطنطاوي، وسليم الجندي.. وغيرهم.

لأن للرموز، سواء في مجال الفن أو الرياضة، وبدرجة ما أيضا في مجال الأدب والعلم، قوة معنوية وتأثيرية على الجماهير، بحكم المحبة والشهرة وكثرة المعجبين، للدرجة التي تصل إلى حالات «هوسية» ومرضية مع البعض، لأجل هذا كله، نجد صاحب الموهبة، أو حتى مجرد صاحب الشهرة، حتى ولو كان فقير الموهبة، له حظوة ودلال عند من يريد الاستفادة من شهرته لصالح تمرير فكرة ما، أو حتى لصالح ترويج علامة تجارية ما، وحاليا نشاهد كيف تتسابق شركات كبرى في المنطقة العربية للظفر بعقود إعلانية مع المشاهير من فنانين ولاعبي كرة، بل وحتى مع خطباء ووعاظ من فئة «النجوم»، وقبل أيام وقعت شركة اتصالات كبيرة في السعودية عقدا كبيرا مع أحد ألمع نجوم الوعظ والخطابة الدينية في السعودية، بحفل بهيج، وعقد أبهج.

كل هذا يأتي في سياق تعظيم القوة الدعائية لهذا الطرف أو ذاك، حكومة كان أو حزبا سياسيا، أوتيارا ثقافيا، أو حتى شركة تجارية، أو شخصية اجتماعية تريد تسويق نفسها في المجتمع، فيتم مراعاة محبوبي هذا المجتمع، ومن هنا نلاحظ حرص بعض التجار أو ذوي النفوذ على إيجاد تشكيلة من المشاهير حوله، أو مرتبطة به، ولا بأس أن يكون ضمن هذه التشكيلة نجوم من الفن والثقافة والصحافة، ومعهم نجوم من عالم الوعظ والخطابة والتأثير الدعوي. فكلهم في النهاية «علامات» جماهيرية.

الفنانون في طليعة من يتم استهدافهم من قبل هذه القوى المتناقضة، وأهل الفن يكونون في نعيم وعيش رغيد، وشهرة ممتعة، إذا كان الجو العام جو سلام وهدوء، فهنا هم أحباب الجميع، ويحاولون البعد عن مواطن الخلاف والتوتر، بل تجد بعض الفنانين يغير اسم عائلته إلى اسم فني، ويكون هذا –أحيانا - لخلق صورة جديدة في ذهن المتلقي.

هذا في وقت السلم، لكن في أوقات التوتر والمواجهات، يضيق هامش المناورة، ويصعب اللعب في المنطقة الرمادية، ويصبح الفنان، خصوصا إذا كان يقدم نفسه باعتباره صاحب رأي سياسي، ملزما بإبداء رأيه، كما كان يفعل وقت السلم، وقد يعذر الفنان الذي كان في السلم بعيدا عن «الحكي السياسي». من هنا كان موقف فنان سوري «مسيس» مثل دريد لحام، أو غوار الطوشة، كما هي شهرته الفنية، صعبا ولا مهرب منه، فهو قد قال كلاما فهم منه مساندة نظام بشار الأسد، وتبني روايته حول الأحداث الملحمية في سوريا، وهو ما كان سببا في غضب الناس منه، وتعرض للنقد والغضب، وآخر ذلك الموقف المهين الذي حدث له في لبنان أثناء قيامه بتصوير مشاهد من مسلسل.

في سوريا ومنذ بدء الثورة الرهيبة ضد هذا النظام الموغل التعقيد والبالغ القسوة، والفرز قائم على أشده، وهذا مفهوم، نظرا لحجم الانقسام الخطير والعميق في المجتمع السوري، وبقيت الصفوف مفروزة بحدة ووضوح، بين من هو مع بشار، ومن هو ضده. ونقطة آخر السطر.

وهذه الحدة، أحرجت حتى كبار الكتاب العرب الذين كانوا «يلوكون» هذرة تحاكي هذرة الخطاب الإعلامي الأسدي، وضاق أمام هذا الصنف من الكتاب هامش المناورة، مع الوقت، فأجبروا بعد حين من الدهر على البعد عن بشار وزمرته.

هذا التكالب والضغط على مشاهير أهل الفن، ليس حكرا على السلطات والحكومات، بل هو سلوك ينتظم كل ساع إلى تثمين وتكثير القيم المعنوية والرصيد الجماهيري له، من أحزاب وتيارات وشخصيات معينة، ولذلك تجد كل تيار، يمين أو يسار، ديني أو علماني، يصنع عبر آلته الدعائية، صورة مبالغا فيها.. مدحا، لمن هم معه أو قريبين منه، وبالعكس، قدحا، لمن هم ضده. وكم من فنان مبدع خسر الناس فنه وإبداعه، بسبب هذه الصراعات.

يذكر هنا على سبيل المثال، الصورة الدعائية الثورية التي رسمت للفنانة المصرية الراحلة تحية كاريوكا، باعتبارها فنانة اليسار الثوري المصري، وهي الصورة التي وصل معها الحال إلى أن يدلي ناقد أدبي شهير على مستوى العالم، وهو الفلسطيني الأميركي دكتور إدوارد سعيد، بدلوه الشهير حول تحية كاريوكا، وكل ذلك - طبعا - فيه هوى سياسي وثقافي.

سعيد كتب كتابة جميلة ومؤثرة حول تحية كاريوكا، لكنها كتابة في المجمل لا تخلو من الهوى السياسي منه للكلام الموضوعي، وكان سعيد، صاحب النزعة اليسارية، كما جاء في كتابه (تأملات حول المنفى: إدوارد سعيد، ترجمة ثائر ديب)، يعتبر أن كاريوكا تقف في قلب النهضة المصرية إلى جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كثوم وعبد الوهاب والريحاني.

من هنا فإنه شعر بـ«خيبة أمل» من قيامها ببطولة مسرحية «يحيا الوفد» الهزلية جداً والمبتذلة، علاوة على أنها موالية للسادات الذي قاد سياسة تحاول إرضاء هنري كيسنجر، ردا على سياسة عبد الناصر التقدمية والعربية و«العالمثالثية» كما يصفها سعيد لا سيما أنها، إضافة إلى ما تم ذكره، كانت على علاقة وثيقة بالحزب الشيوعي في الأربعينات والخمسينات، وأنها مع مجموعة من الفنانين والمثقفين المصريين، عزموا عام 1988 في أثينا، على ركوب سفينة العودة الفلسطينية في رحلة إياب رمزية إلى الأراضي المقدسة، إلى آخر هذه الممارسات النضالية).

وكما في هذا الكتاب أيضا، فقد: «اعترفت في لقاء مع سعيد أن آخر أزواجها فايز حلاوة هو الذي ورطها في تلك المسرحية الدنيئة التي قام بتأليفها وكانت تفاخر أمام سعيد أنها كانت، على الدوام، منتمية إلى اليسار الوطني، فقد سجنها، في الخمسينات، عبد الناصر لانتسابها إلى عصبة السلام الموالية لموسكو».

وما جرى في مثال كاريوكا وإدوارد سعيد، قارنه بأمثلة أخرى من «تسييس» الفنان والمبدع في عالمنا العربي، بل في العالم أجمع، فهي قصة مكررة.

لست أنفي عن المرحوم ياسين بقوش، الفنان السوري المغتال، أن يكون مع الثورة السورية أو لا، فربما غدا نرى بيانا من السلطة السورية ينعى فيه الفنان ياسين، ويتهم «إرهابيين» بقتله، وهذا بيان متوقع، لكن المهم هو أن نضع موقع الفنان والمشهور في حومة الحروب والوغى، في موقعه الطبيعي، وحتى لو كنا نختلف مع مواقفه السياسية، فيجب أن لا يحرمنا هذا من الاستمتاع بفنه، فكلنا، أو جلنا، يطرب لفيروز وأم كلثوم وعبد الحليم، ولكن لم يتوقف أحد منا كثيرا عند ميولهم السياسية والثقافية.

الفن الجيد يبقى بعد تطاير قشور السياسة والتاريخ.

[email protected]