السعودية: مجلس الشورى وخطاب الملك

TT

أمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أدت القسم ثلاثون امرأة كأعضاء كاملات العضوية يدخلن مجلس الشورى لأول مرة في تاريخ البلاد، ويأتي ذلك ضمن رؤية إصلاحية وتطويرية شاملة يتبناها الملك منذ أمد ويسعى لتحقيقها بوعي وشمولية وتكامل.

أصدر الملك الكثير من القرارات لإعادة ترتيب بيت الحكم وتطوير مؤسسات الدولة منذ إصداره لنظام هيئة البيعة والقرارات التي لم تزل تتوالى مؤخرا، والتي هدفها تجديد الدولة وتشبيبها، تلك القرارات التي تكرم السابق لماضيه وتمنح الفرصة للشاب لخدمة بلاده ووطنه، وكذلك عبر مشاريع كبرى أطلقها، وقد جنى المجتمع ثمار بعضها، وبعضها استراتيجي سيشهدون أثره لاحقا، كمشروعه لتطوير القضاء ومشروعه لتطوير التعليم ومشروعه للابتعاث الخارجي، ومشروعه للإسكان، وأهم من هذا أنه قاد بلاده باقتدار إلى اقتصاد ناجح أوصلها إلى ميزانيات تاريخية.

ذكرت بما سبق لغير المتابع للشأن السعودي وكذلك لاستحضاره كسياق عند قراءة خطاب الملك في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة السادسة لمجلس الشورى في أول دورة تشارك فيها المرأة، وهو تحدث بصراحة معهودة منه وإصلاح كان هو رافع شعاره منذ البدء وتطوير واعٍ ومتدرج لبلاده، مستحضرا مشكلاتها الحقيقية والواقع الذي تعيشه المنطقة وصراعات الأفكار والسياسة.

تحدث الملك عن رؤيته السياسية لبلاده بكلام بليغ في إيجازه وشامل في اختصاره، وذلك عندما تحدث عن «تفعيل أعمال المجلس»، وهو ما يعني تطويرات قادمة لصلاحيات المجلس وطبيعة دوره في مؤسسات الدولة وطبيعة تكوينه وتركيبته، على أن تأتي جميعا في إطار من «الوعي والعقلانية تلك التي لا تندفع إلى عجلة تحدث ضجيجا بلا نتيجة»، كما تحدث صراحة عن التطوير السياسي المتدرج «بعيدا عن أية مؤثرات».

أحسب أن هذا الخطاب على الرغم من اختصاره شديد الأهمية وناصع الأفكار، فهو جاء في زمن تشهد فيه المنطقة الكثير من الفوضى والنزاعات، وتدور فيه جدالات كبرى وصراعات فكرية متعددة، وكذلك أنا لم أقرأ تركيزا كافيا على بعض المضامين السياسية التي جاءت في الخطاب.

فجدل الديمقراطية على سبيل المثال هو جدل محتدم، والبعض يرى أنها كآليات وصناديق نموذج ناجز يجب على الكل تطبيقه كما هو في بلاد الغرب، وفيها جدل فكري طويل وصل إلى حد أن يعتبرها البعض نهاية التاريخ كما طرح فوكوياما سابقا وتراجع عنها مؤخرا، وهو جدل يمتد ويزداد سخونة مع وصوله إلى ما يسمى بالربيع العربي، وذلك حين يرفعها البعض شعارا باعتبارها المخلص الوحيد، وفيها جدل بينها كمفهوم وتطبيق، وفيها جدل ديني عريض تمثله بعض التيارات الدينية الجديدة التي تسعى لإعادة تفسير المفاهيم الدينية كلها لتعبر عن مواقف سياسية معارضة وتخلق تأويلات جديدة ومنظومات مستحدثة لقراءة الدين نفسه ضمن سياقات حديثة فرضت شروطها على الواقع، وقد كان للسعودية خيارها المنحاز للعدالة التي هي أصل الحرية والديمقراطية، وللتنمية التي تحقق رفاه المجتمع مع تطوير سياسي متدرج.

وجدل آخر تثيره «الثورات»، وهو جدل شهد في العامين الأخيرين محاولات للضغط على دول الخليج المستقرة ودفعها لإحداث تطويرات سياسية تنحاز إلى العجلة والقفز في المجهول، بعضها اتخذ شكلا عدائيا، ومن هنا جاء التأكيد على الابتعاد عن «أية مؤثرات»، ويمكن هنا استحضار ما قاله المفكر الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس: «إن الثورات التي عرفها الغرب الليبرالي منذ ثورة الأنوار، وأيضا تلك التي عرفها الشرق الاشتراكي - وبالتحديد في أوروبا الشرقية والصين - لم تحقق الاستقلالية المأمولة والديمقراطية المنتظرة»، ويضيف وكأنه يتحدث عما يجري في دول الانتفاضات العربية: «فالحركات الاجتماعية التي حملت مشروع الثورة فشلت، ولهذا فإن المطلوب هو إعادة قراءة مسار هذه الحركات وتقييمها من أجل استشراف آفاق أخرى». «الفلسفة السياسية»، المقدمة، ص22.

ويؤكد ذات المعنى خوسيه أورتيغا إي غاسيت بقوله: «والثورة في عجلتها المتهورة، والنبيلة برياء، من أجل إعلان الحقوق، خرقت دائما واغتصبت وحطمت حق الإنسان الأساسي، جد أساسي... حق الاستمرارية». «تمرد الجماهير».

في خضم الفوضى العارمة بشر البعض بصعود الجماهير وقوتها وفضائلها وانساق وراء حماستها واندفاعها وجهلها ولا عقلانيتها، فكان الانحياز للعقلانية بارزا في الخطاب، ذلك أن الرهان على الوعي هو رهان على المستقبل، والرهان على العقلانية هو رهان على التؤدة والحكمة في قراءة الأحداث والواقع والتعامل معها.

إن الجماهير عادة ما تحدث ضجيجا بلا نتيجة، وصخبا بلا فائدة، بل وأكثر من هذا أنها قد تحدث فوضى وتخلق خرابا، وهو ما تشهد به أحداث المنطقة الدامية، وقد تحدث عنها كثير من المفكرين والساسة الكبار، وخصوصا حين تحتشد تحت شعارات تؤثر على استقرار الدول والمجتمعات، «فقد أطلق جورج واشنطن في إحدى المرات على عامة الناس (الجموع التي ترعى)، وتكلم ألكسندر هاملتون عن (الجماهير التي لا تفكر)، وجون آدمز الذي لم ينسَ أنه كان مرة واحدا منهم علق على الشخص العادي بأنه (قطيع الإنسانية العام)»، «الثورة الأميركية»، غوردن س. وود، ص 128. ويجب أن نستحضر هنا أن الحديث عن الجماهير ليس حديثا عن الشعوب، فالجماهير غير الشعوب.

«العامة» و«السوقة» و«الرعاع» و«الغوغاء» وغيرها هي تعابير تراثية عربية عن الجماهير، وقد جاء في شرح «نهج البلاغة» عن علي بن أبي طالب أنه قال في صفة الغوغاء: «هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، فقيل قد علمنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟ فقال: يرجع أهل المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى بنائه والنساج إلى منسجه والخباز إلى مخبزه»، ونقل الجاحظ عن عمر بن عبد العزيز أنه إذا نظر إلى الطغام والحشو قال: «قبح الله هذه الوجوه لا تعرف إلا عند الشر».

يذكر التاريخ العربي المعاصر والحديث أن الجمهوريات العربية في ظل الانقلابات العسكرية التي كانت تسمى ثورات، تلك التي تبنت القومية العربية ونحوها كالبعثية أو الناصرية أو حتى الشيوعية، كانت دائما تهاجم دول الخليج وعلى رأسها السعودية، وتسعى لإجبارها على سلوك نفس طريقها، وهي قد فشلت فشلا ذريعا في ذلك، وسقطت وبقيت السعودية ودول الخليج، والمشهد يكرر نفسه اليوم وإن بسياقات وظروف مختلفة عبر شعارات ما يسمى بالربيع العربي تلك التي أفضت إلى كثير من الخراب والفوضى.

بكلمة، إنه نموذج استقرار الدولة في مقابل نموذج استقرار الفوضى.