سياسة الإهمال.. من الديكتاتور الفرد إلى الحزب!

TT

إذا كان أداء السياسة الخارجية الأميركية من سيئ لأسوأ كما راجعت «واشنطن بوست» أداء الرئيس أوباما مقارنة بغيره حتى كلينتون الوادع، فإن المسألة تتعدى ذلك إلى ما يمكن تسميته «سياسة الإهمال» والتي انكشفت بشكل مفزع في التعامل البارد تجاه الدماء الحارة في سوريا، إلا أن المفاجأة كانت في عدم الاكتراث حتى بأي رغبة أوروبية في التدخل في مسألة محبّبة للسياسة الخارجية وهي محاربة «القاعدة» وأخواتها في شمال أفريقيا، وهو الأمر الذي يعد انتقالا من مرحلة الحرب على الإرهاب بكل أخطائها إلى ما يشبه «التطهّر السياسي» الذي يمارسه أوباما حتى في نفوره من الدخول في معترك المواجهة مع «القاعدة» الناشطة في أكثر من منطقة.

الأكيد أن دعوات المحافظين كما يفعل السيناتور جون ماكين في توبيخه بمناسبة ومن دون مناسبة لسياسات أوباما تجاه المنطقة وفشله في إيجاد صيغة حازمة للتأثير على الحالة السورية ليس هو ما أعنيه في هذا المقال، فالذين يرون ضرورة التدخل في مالي أو سوريا أو شمال أفريقيا فضلا عن مناطق التوتر الأخرى هم في النهاية «تجار حروب» قد يعيدون حماقات السنوات الماضية، إلا أن المفزع حقا هو غياب أي استراتيجية حقيقية لتدارك الأوضاع المتدهورة في تلك المناطق وعلى رأسها ما يحدث من جرائم تفوق الوصف في سوريا.

وإذا اعتبرنا أن علينا أن نعيد طريقة فهمنا لسياسة أوباما الجديدة تجاه مناطق التوتر؛ ونتحدث عن الجزء المحبب له وهو دعم الديمقراطيات الناشئة والحماسة المفرطة التي أبداها وطاقم إدارته تجاه الربيع العربي الذي حمل بصمات أوبامية في براعمه الأولى؛ فإن «سياسة الإهمال» تبدو أكثر تحققا في التعامل مع ملف «الربيع العربي»، وينطلق السؤال: لماذا لا تفعل الولايات المتحدة شيئا لدعم الاستقرار في بلد يمكن أن يكون قريبا منها جدا مثل «تونس» وذلك عبر فتح الأسواق الأميركية ودعم الاقتصاد التونسي المشروط بصيغ تصالحية وتوافقية بين الفرقاء هناك، حيث يمكن أن يكون للمفاوضات الجادة دور هام في تجسير الهوّة وردم ما تصنعه الأزمات الاقتصادية من الاحتماء بالهويّات السياسية الصغيرة.

أليس من الأولى قبل لوم أميركا وأوروبا على عدم التدخل في النزاعات المسلحة تحذيرها من مغبة تفويت الفرصة للتدخل في الدول المحررة بفعل الثورات أو حتى المناطق المحررة في الداخل السوري التي تحولها سياسات الإهمال الأوبامية إلى مناطق جاذبة للتنظيمات الإرهابية.

التراجع في النفوذ الأميركي ليس وليد الربيع العربي حتما بل سبقه بسنوات وهو أيضا في طريقه للتمدد مكانيا وزمانيا، فالشرق الأوسط لم يعد نقطة ارتكاز في السياسة الخارجية لدى الولايات المتحدة مثلما تمثله الآن آسيا ورأس التنين «الصين».

هذا الإهمال الذي يجب أن يقلقنا عكس ما يتظاهر به أعداء أميركا المزيفون وهم من يناصبها العداء في الظاهر ويرفع الشعارات الكبيرة ضدها بينما يتحالف معها في أدق التفاصيل، وسبب القلق يعود إلى تراجع الدور الأوروبي الحقيقي في المنطقة إضافة إلى تشتت الجهود الدولية التي يمكن أن تلعبها المؤسسات الدولية الكبرى الغارقة في النزاعات التي تملأ العالم وتحول دون التركيز على منطقة ما.

لكن تراجع الدور الأوروبي ليس بأكثر أهمية من أن سياسة الإهمال ستخلق مساحة عريضة جدا للتنافس بين القوى الصاعدة وشبه الناجزة، فإذا كانت ولادة لاعبين جدد في المشهد الشرق الأوسطي مثلت قلقا وتحديا كبيرا تمثل في القلق المتنامي من تأثيرات صعود قوى الإسلام السياسي التي خطفت الثورات بحكم تفوق مكائنها الانتخابية وتحالفاتها مع السلفيين واستغلالها لمصادر تلقي الجمهور لا سيما ذات الطابع الديني؛ إلا أن الأزمة الحقيقية هي في حالة الفراغ التي خلفها الإهمال والتي تشي بتنافس الدور التركي والإيراني حيث يرغب كل من الطرفين في استثمار هذه الهشاشة السياسية والكساح الاستراتيجي بحكم تدهور الأوضاع وضعف الفكر السياسي أو ما يسمى بـ«المخيال» لدى قوى الربيع وعلى رأسها مصر ومن هنا فإن دور مصر لا يمكن أن يكون مرشحا للتأثير بقدر التأثر والدخول في أحسن الأحوال ضمن تحالفات قد لا تكون في مصلحة دول الخليج حتى وإن كانت مع قوة ناعمة وتحظى باحترام الجميع مثل التجربة التركية التي في نهاية المطاف لديها طموحات توسعية ورغبة في السيطرة والنفوذ لا تقل عن منافستها إيران وكلتاهما ستلعب على الظفر بالحلقة الأضعف «الإسلام السياسي» وعلى رأسه الإخوان الذين يتأرجحون بين الرغبة في الندية والتحالف القوي وبين ضعف مواقع أقدامهم في السلطة بفعل الأداء الرديء وصعوبة الفصل ما بين الدعوي والسياسي من جهة ومحاولة ابتلاع الحالة السياسية في اقتراب للنموذج الإيراني منه للتركي مع غياب عنصر كاريزما القائد حيث لا خميني مصريا وبالتالي فإن هذا الارتباك سيتحول مع «سياسة الإهمال» الأميركية التي تعجز حتى عن العمل في المناطق المستقرة سياسيا إلى إعادة إنتاج للديكتاتور عبر التحول من طغيان الفرد الزعيم إلى طغيان الجماعة والحزب وهو ما يعني أنه سيصبح أطول أمدا وأكثر قدرة على البقاء والتجدد.

[email protected]