بيت الحكمة.. وتداول الحضارات

TT

الصورة الغالبة على كثير من الشعوب في بلدان عربية مثل مصر والعراق وسوريا وتونس وليبيا واليمن هي صورة محزنة، وفي الجملة كئيبة. لقد تخلفنا في وقت تقدم فيه العالم. أصبحنا أو أصبح أغلبنا يعيش عالة على العالم المتحضر في كل شيء. في غذائه وفي علمه الذي يحصله وفي سلاحه الذي يحتمي به. هل نستطيع أن نقارن بين قطر من أقطارنا وبين ماليزيا أو تركيا أو اليابان فضلا عن بلدان أوروبا والأميركتين. ولكن التخلف الذي نعيشه ليس ضربة لازب لا فكاك منها. لقد مر على هذه الأمة حين من الدهر كانت هي منارة العالم ومصدر العلم والحضارة والاستنارة.

يدفعني إلى كتابة هذا المقال عن تداول الحضارات كتاب كتبه باحث غربي هو جوناثان ليونز بعنوان «The house of wisdom» عن بيت الحكمة الذي أنشأه الخليفة العباسي المستنير «المأمون» في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) وقد صدّر جوناثان كتابه عن بيت الحكمة بالعبارة الآتية: «كيف أسس العرب لحضارة الغرب».

وفي هذا الكتاب الرائع الموضوعي يتكلم جوناثان عن كثير من العلماء الأوروبيين الذين نقلوا المعرفة والعلم العربي الذي كانت تحتضنه دار الحكمة في بغداد إلى أوروبا، وفي مقدمة هؤلاء العلماء «اديلارد أوف باث Adelard of bath» الذي نقل إلى الغرب في العصور الوسطى روائع علم الهندسة وعلم الفلك وعلم النجوم وغيرها من حقول المعرفة. وكان اديلارد هذا طالب علم بريطانيا وكان متعطشا للعلم والمعرفة ولم يجد ما يروي ظمأه إلى هذه المعرفة كما يقول جوناثان نفسه، إلا أن يرحل إلى بلاد العرب ليستحوذ على قوة المعرفة العربية وليعود إلى بلاده لينقل إليها ما حصل عليه من علم ومعرفة «عربية» ليساعد على تغيير عالمه الغربي إلى الأبد.

لقد أعادت قوة العلم العربي التي كان «اديلارد» بطلها تكوين المشهد الثقافي الأوروبي وبقي أثرها إلى القرن السادس عشر وما بعده، وهي التي شكلت الأسس العلمية التي أقام عليها كوبر نيكوس وغاليليو أعمالهما العلمية الذائعة الصيت، والتي لا يعرف أحد الآن أنها مستقاة أصلا من الحضارة العربية الإسلامية.

وخلال هذه الفترة من العصور الوسطى - المظلمة في أوروبا، والمضيئة في بلاد العرب والإسلام - كان في استطاعة العلماء والدارسين من كل الفئات والبلاد أن يجوبوا الآفاق ويتبادلوا الحوارات والمناقشات باللغة العربية التي كانت في ذلك الوقت لغة عالمية.

سبحان مغيّر الأحوال..!!

ليس هذا فحسب بل شهدت هذه الفترة الرائعة في حياة العرب والمسلمين نوعا من التسامح لم تعرفه البشرية من قبل، وأوشك أن أقول ومن بعد؛ إذ كان المسلمون والنصارى واليهود والمجوس والصابئة قادرين على تبادل الأفكار والحوار.

ومما يروى عن مجالس بغداد في تلك الفترة أن جلسات وموائد مسائية كانت تجمع بين هؤلاء جميعا يتسامرون ويتبادلون الأفكار ثم يتفرق جمعهم بعد ذلك كل إلى حال سبيله. إلى هذا المدى كان التسامح.

ومرة ثانية أقول سبحان مغيّر الأحوال. وصلنا إلى حال يكفر فيه بعض المسلمين غيرهم من أهل دينهم والعياذ بالله.

ولم تكن بغداد وبيت الحكمة وحدهما هما مصدر الإشعاع المدني والحضاري إلى بلدان أوروبا، بل إن الأندلس على عهد الأمويين الذين هربوا من الثأر العباسي. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن المفكر العربي الكبير ابن رشد كان واحدا من الأفذاذ الذين أشاعوا الثقافة العقلية والعلمية في العرب ثم في الأندلس ومنها إلى ربوع أوروبا.

ومما يروى وله دلالة كبيرة على ما نقوله من أن الحضارة الإسلامية ساهمت في نهضة البشرية كلها وبخاصة شعوب أوروبا، أنه في بداية القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي - أرسل الملك جورج الثاني ملك إنجلترا والسويد والنرويج إلى ملك المسلمين الخليفة الأموي هشام الجليل رسالة يقول له فيها: «..بعد التعظيم والتوقير، لقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية في اقتفاء أثركم في نشر أمور العلم في بلادنا معترفا بالجهل المحيط بها من أركانها العربية».

ومرة ثالثة يا سبحان الله.

ومن أراد أن يعرف شيئا عن تاريخ الأندلس فليرجع إلى السفر الضخم الذي ألفه كاتب غربي «Joseph Aschbach». وترجمه في جزأين كبيرين، الأستاذ محمد عبد الله عنان، تحت مظلة المركز القومي للترجمة، يوم كان يشرف عليه الصديق العزيز الدكتور جابر عصفور.

هل بعد ذلك كله دليل على أن الحضارة والعلم ليس بينها وبين العرب والمسلمين عداء أصيل، وإنما ساهم العرب والمسلمون في حضارة البشرية، ومن حقهم الآن بل إن عليهم أن يتنبهوا إلى ما حققه العالم من حولهم لكي يتغلبوا على ما هم فيه من تخلف وعدم استنارة وأن يستعيدوا بعض أمجادهم الغابرة وبعض فضلهم السابق على الحضارة البشرية.