القصير في الكويت!

TT

شهر فبراير (شباط) قصير بحد ذاته، في الكويت أقصر، بسبب الإجازة الطويلة للاحتفال باليوم الوطني وذكرى التحرير، في بدايته واستشرافا لذكرياته الوطنية، عقدت ندوة داخلية في جامعة الكويت بهدف الحوار حول مستقبل الديمقراطية في الكويت، بعد التغييرات الأخيرة في طريقة انتخاب النواب لمجلس الأمة من أربعة نواب للناخب إلى نائب واحد فقط. كان المتدخلون في الندوة من أعضاء الهيئة التعليمية المتخصصين، كما الحضور وبعض الطلاب وقليل من المهتمين من خارج أسوار الجامعة. التدخلات كانت غنية بالأفكار، وكان شعور الجميع أن فبراير ينعش الذكرى ويدفع للتأمل في المستقبل.

تستطيع أن تبالغ في الأزمة السياسية الكويتية، وتأتي بعدد من الشواهد العملية مؤيدة لرؤيتك، التي بعدها يقول من يستمع إليك أنك على حق، وتستطيع العكس، أي تقلل من حجم الأزمة، وتستدعي شواهد تدلل على ذلك، وهذا ما حدث في تلك الندوة الهامة.

وأتوقف أولا مع نصف الكأس الملآن، حتى أعرض نقاط القوة في العمل السياسي الكويتي التي تمت في السنوات الأخيرة، وهي – من بين عدد من الإنجازات - حصول المرأة الكويتية على حقوقها السياسية، التي حصلت عليها بالكامل ووصلت أيضا إلى كراسي المجلس التشريعي ومقاعد الحكومة، وهي نقلة نوعية هامة في ضوء الممانعة التي كانت سائدة حتى بين المنظمين، ممن يعتقدون أنهم (ديمقراطيون) أو ينادون بالديمقراطية، وقد قاوموا ذلك كثيرا وطويلا، كما أنه تم فصل ولاية العهد عن رئاسة الحكومة، الأمر الذي استمر طويلا في السابق، بل أصبح في الكويت رئيس وزراء سابق، الذي صوب نحوه الكثير من السهام السياسية، الكثير منها لم يكن باتجاه الهدف الصحيح، ومن الإنجازات حل البرلمانات في الكويت الذي تكرر أكثر من مرة في السنوات الأخيرة وكان دائما حلا دستوريا، أي يجيزه الدستور، على عكس ما حدث في السابق، قبل عام 1990، فقد كان الحل في بعض الأوقات يتم خارج نصوص الدستور، كما ولأول مرة يدخل عنصر جديد في العمل السياسي وهو أن تقوم المحكمة الدستورية بحل مجلس منتخب بسبب عوار قانوني، وقد قام برفع الدعوى مواطنون عاديون. تلك بعض الإيجابيات التي تخفى على المتعجل الذي ينظر من بعيد للمسيرة الديمقراطية الكويتية ويتوقف أمام بعض مشوهاتها. تكلفة هذا التحول لم تكن باهظة.

أما ثانيا فإن العمل السياسي والديمقراطي بصفته، هو عمل متحرك، يخطئ من يعتقد أنه بلا مشكلات أو عقبات، كما يخطئ من يريد – بوعي أو دون وعي – تصغير الحراك السياسي في الكويت بالحديث عن خلاف حول عدد من ينتخبهم المواطن، أربعة أم واحد، تقديري أن ذلك النقاش بعيد عن أهداف الأغلبية في المجتمع، وإن تمسك به البعض. ما ينقص هو مشروع واضح له رؤية لمواكبة التغير من حولنا.

الديمقراطية – بأشكالها المختلفة - هي آلية لا تطلب لذاتها، إنما لما تحققه للمجتمع من سلام اجتماعي ورفاه اقتصادي ومساواة في الحقوق والواجبات. ضياع الإنجازات الكويتية أمام الضجة القائمة فيه الكثير من الضيم لما تم تحقيقه بالفعل وتعطيل لما يراد أن يتحقق. وهناك استحقاقات تحملها شهور ما بعد فبراير.

من هذه الاستحقاقات ما يمكن أن تتمخض المحكمة الدستورية من رأي في الطعون المرفوعة من مواطنين أو نواب سابقين حول دستورية القانون الصادر لتقليص أصوات الناخبين. المطلعون يرون أن قرارا بتأكيد دستورية ذلك المرسوم يعني العودة إلى التأزيم من جديد! أما إذا قضت بدستورية تلك المراسيم فإن الأمر ربما يأخذ اتجاهين؛ الأول هو قبول قطاع واسع من الجمهور السياسي بهذه الأمر، والعودة إلى خوض العمل السياسي شعبيا أولا ثم انتخابيا، متى ما تقرر الذهاب إلى انتخابات عامة، والاتجاه الثاني قد يبقي البعض – ولو بحجية أقل – معارضا حتى مع حكم المحكمة الدستورية، إلا أن جمهوره سوف يتناقص.

عوار الممارسة الكويتية للديمقراطية – بعد كل هذه السنوات - وبعيدا عن الآنية، لن يشفيه حكم محكمة – أيا كان هناك عوار هيكلي، وهو أن وثيقة دستورية تبقى دون تطوير لمدة خمسين عاما، وهذا أمر، ربما غير طبيعي إنسانيا، وحتى أدلل على خرق للطبيعة الإنسانية السياسية، أقدم بعض الأمثلة. فالدستور الفرنسي الأخير (الجمهورية الخامسة) تم تعديله 24 مرة، فقط من عام 1998 إلى عام 2008 أجري عليه أربعة عشر تعديلا! في تركيا الدستور الصادر عام 1982 أجري عليه عدد من التعديلات بلغت ثلاثة عشر تعديلا، والأتراك بصدد كتابة دستور جديد. الدستور البرازيلي أجري عليه تعديلات بين عام 1988 وعام 2006 بلغت سبعة. تم تعديل الدستور الهندي عدة مرات، بعضها تعديل جوهري تقريبا. كل الدساتير العالمية المكتوبة، خضعت للتطوير – كونه عملا بشريا - إلا دستور الكويت الذي عمره حتى الساعة نصف قرن من الزمان!

ما هي نتيجة هذا التجميد أو الجمود؟ نتيجته ظواهر سياسية غير مسبوقة، فقد كان في مجلس الأمة الرابع عشر – المجلس الموقوف – أغلبية معارضة!! كيف يكون هناك أغلبية ومعارضة في نفس الوقت، تلك ظاهرة كويتية بامتياز، فعادة تكون الأغلبية في الحكم، والأقلية في المعارضة. كما أن الظاهرة الكويتية الأخرى أن (المعارضة) هي قوس قزح من الأفكار التي بعضها يناقض البعض الآخر، هي تجتمع على بعض المقولات، ولكنها تتفرق على كثير منها في التفاصيل، لعل الشاهد الأهم هو التناقض فيما يدعو إليه الدستور الكويتي من حريات، والمحاولة التي قررتها المعارضة – في المجلس الموقوف - بإعدام من (يغرد) ويفهم من تغريده معاكسة الموروث، وقد تم بالفعل إصدار ذلك المشروع بقانون، فرده أمير الكويت، ولو لم يتم الرد، لعلق البعض على المشانق.

السبب في كل ذلك غياب الأحزاب المنظمة تنظيما حديثا. الجماعات السياسية في الكويت – في أغلبها – قائمة على علاقات فردية ومذهبية وقبلية وطائفية ومناطقية أي روابطها تقليدية وليست حديثة، القليل منها مخترق للأشكال الاجتماعية التقليدية، وفي غياب تنظيمات سياسية أو جماعات سياسية قائمة على التكوين الحديث، يظل الناس مرتبطين بما يعرفونه من طائفة أو قبيلة.

تجد من يجادل بالقول: إن البلاد لا تقبل الأحزاب، وهو جدل تدحضه الشواهد التاريخية؛ ففي منتصف السبعينات كانت قائمة نواب الشعب هي مركز الاستقطاب وممثلة لكل المنشور الاجتماعي السائد. الديمقراطية تحتاج إلى ثقافة دمقرطة وإلى تنظيم حديث وقبول الآخر بصفته مواطنا وتغيير التفكير الاتباعي بتفكير إبداعي، قبل أن نتشدق بها على المنابر.

آخر الكلام:

الكثير من المتسرعين يصفون مجتمع الخليج بأنه مجتمع قبلي، وهذا توصيف غير دقيق علميا، هناك ثقافة القبيلة، بسبب عجز أو تقاعس المجتمع عن تكوين تيارات سياسية عابرة، أما المجتمع فهو مدني بالمعنى العلمي بامتياز.