في ما يتعدى «تصحيح» التمثيل

TT

بعيدا عن حسابات الربح والخسارة الحزبية في الانتخابات النيابية اللبنانية - هذا إن جرت، وبصرف النظر عما إذا كان مشروع القانون المعروف بـ«الأرثوذكسي» (الذي يحصر حق التصويت لنواب لبنان بأبناء طائفتهم دون سواهم من المواطنين الآخرين) يصحح التمثيل المسيحي في البرلمان أم يشوّه الديمقراطية التوافقية - الهشة أصلا - في نظامه، وعلى الرغم من كل الشوائب التي تعاني منها ديمقراطية لبنان التوافقية، فإن تحويل التنوع المذهبي للمجتمع اللبناني من ضمانة لهذه الديمقراطية إلى عامل تهديد لها يتخذ أبعادا مقلقة في ظل التحولات الإقليمية الراهنة، والتجاذبات المذهبية في لبنان، لذلك، وعلى الرغم من مظاهر النصر السياسي المبين الذي ادعت تحقيقه القيادات المسيحية عقب إقراره في اللجان البرلمانية.. قد لا يكون من المبالغة في شيء الاستنتاج بأن حماس هذه القيادات للمشروع ليس أكثر من مؤشر على انتكاسة ما كان يعرف بـ«المارونية السياسية» في لبنان.

أن يتقلص أفق طموحات «المارونية السياسية» من لبنان الكبير، عام 1920، إلى لبنان «القائمقاميات» السبع عشرة المذهبية عام 2013، مؤشر مؤسف على تراجع التطلعات المسيحية من حماية ما كان يعرف بالانعزالية (على الساحة العربية الواسعة) إلى التقوقع (على الساحة اللبنانية الضيقة).

من لبنان الكبير إلى لبنان القائمقاميات المذهبية.. يصح التأريخ لمسيرة انسحاب مسيحي تدريجي من «المسؤولية» السياسية العامة في دولتهم إلى المسؤولية «الرعوية» لطائفتهم.

ففي أجواء المناخ النفسي السائد حاليا في لبنان، يشكل مشروع قانون الانتخاب «الأرثوذكسي» مشروع طلاق مسيحي من لبنان الوطن.

والمؤسف أن يأتي هذا الطلاق ممن أعطوا مجد لبنان عام 1920 (عام لبنان الكبير) ليصبح لبنان الوطن رسالة السنة والموحدين الدروز وحدهم.

ربما عملت مشاعر الإحباط التي لحقت بالمارونية السياسية عقب حرب لبنان الأهلية، وفشل مشروعها التفرد بحكم لبنان، على تشجيع حالة الارتداد إلى البيئة المذهبية، ولو على حساب لبنان الجامع لكل أبنائه.

واللافت أن تتزامن الدعوة إلى شرذمة اللبنانيين على أسس مذهبية مع تنامي احتمالات تقسيم جارتهم المباشرة، سوريا، مذهبيا وإثنيا. والقيادات المسيحية في لبنان تدرك قبل غيرها مدى «تأثر» الساحة اللبنانية بمجريات الأوضاع في سوريا.

تزايد أجواء الانقسام حيال قانون الانتخابات اللبناني وتورط جهات لبنانية معروفة في أحداث سوريا، بدأ ينعكس من الآن فلتانا أمنيا واستشراء مقلقا في الانتشار المسلح تحت شعارات مذهبية الطابع أو الخلفية.

كمن يجدع أنفه نكاية بوجهه، يؤسس دعاة مشروع القانون «الأرثوذكسي» لكونفيدرالية دويلات مذهبية لا رابط بينها سوى رابط الجوار الجغرافي.. ومن يكفل استمرار هذا الجوار - الحذر أصلا - في حال تجذّر التقوقع الطائفي في لبنان؟

حتى وإن كان تنامي المد الديني الأصولي في المنطقة أحد دوافع التقوقع المسيحي في نظام «غيتو» انتخابي فريد من نوعه، فذلك لا يبرر تغاضيهم عن واقع تؤكده باطراد أحداث تونس ومصر: المسيحيون ليسوا، وحدهم، القلقين من تبعات هذا المد بل تشاركهم فيه شريحة واسعة من الليبراليين والديمقراطيين ودعاة المجتمع المدني على مساحة العالم العربي كله.

وهذه الشريحة تثبت باطراد قدرتها على مواجهة هيمنة الأنظمة الأصولية على مجتمعاتها.

من هنا يصح التساؤل: لماذا يغامر مسيحيو لبنان بفقدان تعاطف أبناء الطوائف الأخرى مع قلقهم من الأصوليات الدينية بالإمعان في «تطييف» نظامهم السياسي فيما هم مؤهلون لطرح البديل الديمقراطي المتسامح في المنطقة؟

من نافل القول أن السياسيين المسيحيين الفرحين بتجاوز خلافاتهم السياسية في تأييدهم لمشروع القانون «الأرثوذكسي» يرتكبون خطأ جسيما - وربما تاريخيا - بمواجهتهم الحالة الطائفية في المنطقة بالمزيد من الطائفية في لبنان وكأنهم يدفعون لبنان بأيديهم لأن يكون الضحية الأولى لهواجسهم الإقليمية.