«ليالي الوصل» في الشارقة

TT

يفترض أن «منتدى الاتصال الحكومي» الذي كدت إمارة الشارقة لتنظيمه للمرة الثانية على التوالي هذه السنة، هدفه تحسين نوعية التواصل بين الحكومات والشعوب. لكن من المفارقات التي حدثت الأسبوع الماضي، أثناء انعقاد المنتدى، أن يأتي الإعلاميون والخبراء وممثلو شركات العلاقات العامة ويغيب المسؤولون السياسيون والحكوميون إلا من بات منهم وزيرا سابقا أو مسؤولا معتزلا. وهذا بحد ذاته أكبر دليل على أن الناس ما يزالون يخاطبون أنفسهم، ويتداولون مع ذواتهم، لإيجاد حلول لمشاكلهم، بعيدا عن آذان المسؤولين الذين لا نعرف إن كانوا قد دعوا وتقاعسوا، أم أنهم استبعدوا. باستثناء رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا (غير العربي) الذي جاء كعادة المسؤولين الأتراك يستعرض النموذج الناجح الذي تقدمه بلاده بلهجة عنترية قاطعة، بدل التحلي بشيء من التواضع، لم نلمح حضورا لمسؤولين سياسيين عرب بيدهم الحل والربط.

حضر حاكم الشارقة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ومسؤولون في الإمارة، لكن المنتدى طرح أسئلة عربية لا محلية، ومعضلة تستحق التأمل على مستوى المنطقة. وهكذا بقي أصحاب الخبرات الإعلامية يسألون ويجيبون طوال يومين كاملين، محاولين فهم ما يدور حولهم، يعينهم في ذلك بعض الذين تولوا، ذات يوم، مسؤوليات في وزارات أو مراكز سياسية. لكن المضحك المبكي أن هؤلاء أنفسهم، الذين خبروا المناصب والوزارات، كانوا يؤكدون على أن حبل الحوار منقطع فعلا. من بينهم عمرو موسى، صاحب الباع في وزارة الخارجية المصرية وجامعة الدول العربية، الذي يرى أن الثورات القائمة ما هي إلا نتيجة لهذه القطيعة، ووزير الداخلية اللبناني السابق زياد بارود الذي لم يتردد في القول إنه صدود مقصود، بسبب عدم وجود إجابات عند المسؤولين أصلا، في أحيان كثيرة. ثمة من لا يحب التعميم، ولكن أليس من الشائع أن يتحول مستشارو كل من يتولى مقاما رفيعا إلى سدود هدفها حجب الناس عن المسؤولين، وحجب الحقائق معهم. وزيادة إلى السكرتيرات والسكرتيرين والمستشارين، أضيفت في السنوات الأخيرة شركات العلاقات العامة. والصحافيون، أصحاب الحظ السيئ، الذين وقعوا بين أيدي خبراء هذه الشركات وموظفيها، يعرفون جيدا أي معاناة تسبب له شركات تقول إن هدفها تسهيل العلاقات، فإذا بها تقطعها، أو في أحسن الأحوال تشوهها.

وبهذه المناسبة فتحت صفحتي رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال سليمان على «تويتر» و«فيس بوك»، فوجدت أنها تكتفي بنشر تصريحاتهم الموجودة في وسائل الإعلام التقليدية، لمرة جديدة. وعلى الأرجح فإن هذه الصفحات للسياسيين التي باتت موضة عربية رائجة، ليست بعيدة عن أيدي مستشاريهم والشركات التي تدعي مساعدتهم، وإلا لكانوا قدموا أنفسهم بصور أكثر إنسانية وشعبية.

وعلى أي حال، فإن خير ما يمكن لشركات العلاقات العامة أن تفعله في الأجواء الاستثنائية التي يعيشها العالم العربي هو أن تحرر سياسيينا من أساليبهم التقليدية في التعاطي مع الناس، وتخرجهم من نمطيتهم التي لم تعد تتناسب والمتغيرات المتسارعة المحيطة بهم.

حذر بعض المتحدثين في المنتدى الحكومات من مغبة التقاعس عن مسايرة روح العصر، ومتطلباته. واستشهد مسؤول الحملة الانتخابية لأوباما جيم ماسينا بستيف جوبز الذي قال: «عليك أن تعيد إنتاج نفسك كل سنة». فهل يحتمل الغليان العربي الراهن سنوات إضافية من التجمد بعد عقود من التقوقع.

الواقع العربي يتغير بسرعة على الأرض، والحكومات في حيرة من أمرها. المخرج يكون على محورين. تحسين الإنتاج الحكومي، وبراعة في تسويق هذا المنتج.

المحور الأول يتطلب صدقا، وشفافية ومشاريع تنال ثقة الجماهير العريضة، أما المحور الثاني فيحتاج ابتكارات خلاقة لمخاطبة الناس بما يتناسب وأمزجتهم.

أجمل ما طرح في هذا المنتدى هو اقتراح علي جابر مدير قنوات «إم بي سي» العملي التقني الذي يمكن وضعه قيد التنفيذ على وجه السرعة.

شرح الرجل أن التلفزيونات ما عادت مشغولة بقياس نسبة المشاهدة كما كان الوضع سابقا، حيث تستخدم أجهزة لمعرفة مدى شعبية كل برنامج. الانشغال الآن هو بقياس مزاج المتفرجين دقيقة بعد دقيقة، بحيث يعرف القيمون على المحطات التلفزيونية إن كان مشاهدوهم يشعرون بالحزن أو الفرح أو الملل، من خلال رصد وتحليل تعليقاتهم على المواقع الاجتماعية، ودراسة الكلمات المفاتيح التي يستخدمها المتفرج والصفات التي يكتبها مع تحليل الكلمات التي قبلها وبعدها.

واقترح علي جابر استخدام هذا المقياس الحديث من قبل الحكام لرصد حرارة مشاعر الشعوب العربية، والتعامل معها.

هذا غيض من فيض ما طرح. الأفكار كثيرة، والحوارات كان يمكنها أن تكون أكثر نفعا، لو قدر لهذا المنتدى أن يتمكن فعلا من كسر الحواجز المكانية وجمع المسؤولين مع الصحافيين بشكل أكبر فعالية، وربما فتح نقاشات بين مسؤولين من بعض الدول وصحافيين من الدول ذاتها، بحيث تكون مصارحة ومكاشفة، تساعد الجانبين على رسم سبل جديدة في التعاطي بين الحكومات ووسائل الإعلام.

قال أندرو يانغ، وهو رفيق درب مارتن لوثر كينغ في الدفاع عن السود، وأحد الذين كافحوا من أجل انتزاع قانون الحقوق المدنية عام 1964 في أميركا، أثناء مداخلة له في المنتدى: «البيروقراطية اختراع استعماري هدفه عرقلة المشاريع». لذلك ربما أن إحدى أهم الخطوات لتحرير الإنسان العربي، هي رفع المتاريس الطبقية، ونسف الفوقية التي قسمت المجتمعات، وغيبت الحوار.