3 دول على 100 متر

TT

يبدو هذا العنوان كأنه نحت من أجل حكاية خيالية أو متخيلة... لكنه في واقع الأمر حقيقي تماما، نعم قبل أيام قمت بعبور هذه الدول الثلاث.. والوقوف أمام نوافذ التحقق من الشخصية، والتأكد من باقي الأوراق الضرورية.. وهذه هي الحكاية..

بعد أن ألقت ضابطة إسرائيلية نظرات متفحصة على أوراقي، هزت رأسها بما يعني أن «كله تمام»، وضغطت على زر مثبت على مكتبها.. فانفتح الباب الدوار، فإذا بي أغادر دولة إسرائيل النووية.. لأدخل دولة غزة الأبية..

مشيت متبعا سهما يفضي إلى خارج البناء، فوجدت بانتظاري سيارة من تلك التي تستخدم لنقل الركاب العواجيز في المطارات الكبرى.. ويحاكيها في مصر ذلك الشيء الأكثر شهرة في أرض الكنانة والمسمى «التوك توك».

وضعت حقيبتي الصغيرة في المكان المخصص، وجلست إلى جوار السائق.. سعدت بكلمات الترحيب الغزية التي اشتقت إليها، أو لم أسمعها منذ خمس سنوات «نورت غزة».

قال لي السائق الودود، متباهيا بالسيارة الصغيرة التي ستقطع المسافة بين أشهر معبر في العالم «ايريز» إلى حيث سفارة الضفة الغربية على أبواب غزة،: «هذه السيارة هدية من تركيا».. وضحك قبل أن يسألني: «هل تشاهد حريم السلطان؟».

القارئ سوف يستغرب استخدامي لمفردة سفارة في وصف مكتب ارتباط الشؤون المدنية التابع لحكومة رام الله، هذا المكتب والساحة الصغيرة الممتدة أمامه هو قطعة من الدولة الثانية المسماة بدولة رام الله، أو الضفة، أو فتح. ممنوع على إسرائيل الاقتراب منها، وممنوع على حماس كذلك، إلا أن بوسع إسرائيل اقتحامها حين تقرر القيام باجتياح بري محدود أو واسع.

ممنوع الاقتراب في فترات الهدوء، حيث يتمتع المسافرون من غزة إلى العالم بمرور آمن إلى حد ما لا يعكر صفوه إلا إجراءات التفتيش الصارمة.

دقائق وجدت نفسي في الساحة التي سميتها أرض سفارة الضفة.. احتفى بي الموظفون التابعون لسلطة رام الله، فقد رأوا واحدا من «ريحة الحبايب»، عانقوني وأصروا على تحضير القهوة التركية.. كانت ثقيلة ومتقنة، سألوني عن الأوضاع في الضفة، وعن بعض معارفهم وأقاربهم ومسؤوليهم، وبكل تهذيب طلبوا مني تسليمهم بطاقتي الشخصية كي يسجلوا ساعة ويوم الدخول إلى دولة غزة، ويوم المغادرة كذلك. وبعد أن أتموا التسجيل أجروا اتصالا بواسطة «التوكي واكي» مع حرس حدود دولة غزة، وسمعت اسمي يتردد على الجهاز وتوقعت تسهيلات أكيدة، لأن صديقي حسن الكاشف الذي كان في استقبالي عند نقطة حماس، كان قد أجرى اتصالات مكثفة على أعلى المستويات وحصل لي على ترحيب هو بالضبط التعبير المهذب البديل عن «إذن الدخول».

ومن التسهيلات المجزية التي حصلت عليها، السماح لصديقي حسن الكاشف وسيارته وسائقه بقطع المسافة الفاصلة بين سفارة الضفة وحرس حدود دولة غزة، مع مكرمة أخرى وهي إعفائي من مغادرة السيارة والوقوف أمام نافذة الشرطة حيث يقف الجميع من أجل مطابقة الوجه مع الصورة المطبوعة على الهوية.. ومن أجل إضفاء طابع إنساني على الاستقبال الحضاري الذي حظيت به، فقد قام عدد من الشبان بإدخال أيديهم من نافذة السيارة للسلام على «الدكتور نبيل» الذي هو أنا.

شكرت الشبان اللطفاء، واحتفظت بورقة تحمل رقما، بدت لي كما لو أنها البديل المتيسر عن تأشيرة الدخول إلى غزة.

أنا الآن على تخوم غزة.. بدت لي بيت حانون كما لو أنها درعا، حيث ثلاث دول فيما لا يزيد على مائة متر، هناك الدولة الأردنية وحدودها الرمثا، والدولة السورية وحدودها مركز جوازات درعا ودولة الجيش الحر... إما وراءها بقليل أو على حافتها.

قلت لصديقي حسن الكاشف: يبدو أن الحال هو ذات الحال، هنا وعلى امتداد الوطن الكبير. أثار قولي لواعج حسن، الذي عاش بعض أجمل أيامه في العراق، وحين غادرها إلى غزة مقررا توديع اللجوء إلى غير رجعة، مفضلا استقرارا أخيرا في «السدرة» حيث معقل آل أبو شمالة التاريخي في حلهم وترحالهم من بيت داراس إلى غزة، وليس بوسعنا استخدام مفردة وبالعكس.. بدت الحسرة على وجه حسن؛ إذ إن الأمر مع العراق كما هو مع سوريا.. الحال هو الحال..

الدول الثلاث تراها على كل سنتيمتر من أرض غزة.. إسرائيل تعرض نفسها من خلال بقايا الدمار الذي أنتجه الرصاص المصبوب وعامود السحاب وغيرهما من الغزوات الصغيرة والمتوسطة، حيث تأتي النار من الجو والبحر، إضافة إلى أزيز طائرات المراقبة الذي يصيب الناس بالدوار.

والضفة ترى دولتها في عيون الفتحاويين المغلوبين على أمرهم بعد عز طويل الأمد، أيام عرفات وسلطته التي غابت.

أما دولة حماس فتراها في كل الزوايا من خلال الشرطة الملتحية والدوريات ونقاط الحراسة والحواجز والمباني الرسمية.

كل شيء حاضر في الدولة الثلاثية الأبعاد والأضلاع والإجراءات، إلا شيئا واحدا لم أره، وهو التفاؤل بانتهاء هذا الوضع الغريب.