بلوتوقراطية مفلسة

TT

في وقت تتحول فيه سوريا إلى خط تماس للنزاع السني - الشيعي في الشرق الأوسط، وفي وقت يتبارى فيه بعض اللبنانيين على إحباط سياسة «النأي بالنفس» عن الشأن السوري، ينزلق لبنان إلى حالة استقطاب اجتماعي قد تصبح أدهى من الاستقطاب السياسي - المذهبي الذي يعيشه اليوم.

العنوان المتداول إعلاميا لهذا الاستقطاب هو تعديل «سلسلة الرتب والرواتب» للموظفين والأجراء. أما مضمونه الحقيقي فهو تضييق شقة التفاوت الاجتماعي بين «لبنانين»؛ أحدهما مفرط بالثروة، والآخر منهك بالأعباء المعيشية، فيما تتقلص الطبقة الوسطى - العمود الفقري للنشاطات المهنية - ويتحول المجتمع اللبناني باطراد إلى مجتمع ثنائي تقتصر مكوناته على شريحتين متناقضتين: مجتمع المتخمين، ومجتمع المعوزين.

بين الدويلات المذهبية والدويلات الطبقية، يفقد لبنان مصداقيته كدولة قابلة للحياة، فمصداقية أي دولة في عالم اليوم تقاس بقدرتها على تلبية حاجات إنسانها المعيشية ومصلحته الحقيقية في المواطنة المنتجة. في نهاية المطاف، لا يقوم اقتصاد سليم دون أن يحدد لنفسه هدفا اجتماعيا. وفي لبنان، الصغير بإمكاناته والمحدود بمصادر ثرواته، كان يفترض بالدولة أن تأخذ المبادرة في تنمية وسائل الإنتاج (الزراعية والصناعية والحرفية) لتلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع اللبناني على صعيدي الكفاية والعمل.

مجتمع الكفاية والعدل حلم راود المفكرين والحكماء منذ أيام أفلاطون. ولكن حتى وإن كان حلما، فإن ما يؤخذ على «الدولة» في لبنان أنها لم تخطط يوما لتنمية الاقتصاد برؤية اجتماعية واقعية، فتركت عبء الاقتصاد، بما فيه الإنتاج والاستهلاك، للقطاع الخاص المحدود الإمكانات أصلا. ولأن الربحية هي المقياس الأول والأخير لمشاريع القطاع الخاص، فقد حوّل اقتصاد القطاع الخاص لبنان إلى جزيرة بحبوحة ورخاء وسط بحر من الفقر والتخلف ساهمت حربه العبثية في توسيع رقعته.

لبنان اليوم «بلوتوقراطية» أشبه ما تكون بجمهوريات التجار الإيطالية (جنوا وفلورنسا والبندقية) إبان عزها.. مع فارق مفجع؛ هو أن «بلوتوقراطية» لبنان ثرية على الصعيد الخاص ومفلسة على الصعيد العام. بتعبير أكثر صراحة: حكام لبنان من أثرى الأثرياء، والشريحة الأوسع من شعبه من أفقر الفقراء.

قد تكون إيطاليا الدولة الوحيدة التي تنافس لبنان اليوم على «البلوتوقراطية»، رغم تعثر حظ سلفيو برلسكوني في الانتخابات الأخيرة. ولكن اللافت أن دور المال في السياسة اللبنانية ترعرع ونَمَا في ظل الوصاية السورية.. آنذاك ساد العهد الذهبي لخضوع العملية السياسية إلى «توجيه» المال في إطار تحالف غير معلن بين أصحاب النفوذ العسكري (السوريون) وأصحاب القدرات المالية (اللبنانيون)، فلا غرابة أن يتحول لبنان، في أعقاب حربه الأهلية العبثية، إلى «بلوتوقراطية» القرن الحادي والعشرين.

على قاعدة «أعمى يقود مبصرا»، تطالب النقابات اللبنانية اليوم مفلسا أن يمول مفلسا.. أي أن توافق خزينة عامة شبه خاوية على سلسلة تصحيح أجور القطاع العمالي والمهني في لبنان دون إرهاق المكلف اللبناني بضرائب إضافية تغذي التضخم بنسبة قد تفوق نسبة تحسين الرواتب.

معذور أن يكون القطاع العمالي والمهني في لبنان «أعمى بصيرا» في مجتمع استشرى فيه الغلاء وتردى فيه الدخل بحيث أصبحت أبرز صادراته هجرة الأدمغة ونزوح السواعد.

إلا أن الأرقام التي كشفتها مديرية الإحصاءات في مصرف لبنان للنتائج المتوقعة لإقرار زيادات الرواتب والضرائب المطلوبة لتمويل سلسلة الرواتب المقترحة (مثل ارتفاع نسبة التضخم من 2% إلى 6% وتراجع فرص العمل بنسبة 4% والتسبب بتكلفة سلبية على النمو تتراوح بين 1.5% و2%...) تظهر أن الخيار الوحيد المتاح للحكومة اللبنانية هو خيار «المستجير من الرمضاء بالنار»: إن أقرت سلسلة الرواتب، فاقمت الضائقة المالية، وإن تجنبتها، قوضت الاستقرار الاجتماعي.

ولكن هل يعي بعض اللبنانيين أنه بين اقتصاد «لحس المبرد»، الذي تدفعهم إليه النقابات العمالية، وسياسة «شفير الهاوية»، التي تمارسها الأحزاب والميليشيات المذهبية.. يعيشون اليوم أسوأ أيامهم منذ الاستقلال؟