أيام فاتت ـ هموم الكاتب الساخر

TT

كانت وما زالت دنيا الكتابة الساخرة شجونا وهموما. لم يكن عدد القراء كبيرا واعتادوا أيضا على استئجار الجرائد في المقهى بدلا من شرائها. وكان أصحاب الجرائد يعتبرونها منة إذا نشروا لك مقالتك. هكذا فعلت «البلاد» عندما كانت تنشر عمودي، «فلافل الأربعاء». وعندما طالبتهم بأجرة، قالوا ندفع لك إذا ضاعفت مقالاتك مبيعات الجريدة. فرحت أكد وأسعى لأشجع الناس على قراءتها وشراء «البلاد». فبدلا من كوني كاتبا فيها، أصبحت بياع جرائد لها.

عانى من هذه المشكلة الشاعر الشعبي عبود الكرخي. لم تحقق جريدته «الكرخ» مبيعات عالية فأصبحت عبئا عليه. عبر عن محنته هذه في عدة قصائد فقال:

* يكون اعضه من وريده - اللي قال لي صدّر لك جريدة

* لأن راســـي بالمصيدة - أصبح ومشــلوع قلبي

اضطر عبود الكرخي لتغطية ميزانية الجريدة أن يسعى للحصول على اشتراكات من وجهاء القوم ومناشدتهم الاشتراك في «الكرخ». نشر قصيدة عصماء يقول فيها:

* أرجوك تقرا هالقصيدة - وتشترك في هالجريدة

هاك خذها ادبيـــــــــة

* كعب للأخبار هـــــــيّ - لا ترجعها علــــــــــيّ

واشتراكك أرجو عيده

* بيد أن من اشتروها لم يشتروها لما فيها من أخبار أو مقالات وإنما لما فيها من الهجاء المقذع. فالكرخي كان من أبلغ الهجائين ويضاهي جرير والفرزدق والمتنبي. وله أبيات خلدت في الذاكرة.

اعتاد الشاعر على زيارة المدن المختلفة لجمع الاشتراكات. والويل لمن لم يدفع ويشترك. كان بعضهم يدفعون أكثر من مبلغ الاشتراك مساعدة للشاعر وأملا في أن يقول شيئا ظريفا عنهم. ومن لم يدفع يعرض نفسه لهجاء الشاعر وقلمه المقذع. وقع في هذا المطب الصراف اليهودي في مدينة الناصرية، سليم الصراف، أبو إسحاق. زاره الكرخي ليشترك في الجريدة. ولكن أبو إسحاق اعتذر وقال إنه لا يقرأ الجرائد ولا يفهم الشعر أساسا. خرج الملا عبود من دكانه مكسوفا ومنزعجا. فالاشتراك هو نوع من الكرم والمساعدة تدفعه سواء أكنت تقرأ الجرائد أو لا، وتتذوق الشعر أو لا.

عاد لغرفته وتناول القلم وكتب قصيدة مفعمة بالشتائم على سليم الصراف أبو إسحاق. سلمها لأحد أصحابه أملا في أن يطلعوه عليها. وهو ما فعلوه، قالوا له: ويلك يا أبو إسحاق أنت إيش ورطت نفسك مع الكرخي؟ هذا كتب قصيدة بكرة ينزلها بجريدته يلعنك فيها. بس يقروها الناس في الناصرية بعد ولا أحد منهم يدخل دكانك.

أخذها أبو إسحاق وهم بقراءتها. ما إن قرأ البيت الأول منها حتى ارتجفت فرائصه:

* بالناصرية صراف - محتال أصلي وبلّاف

* وباشر باتهامه بالصهيونية طبعا، ثم انتقل إلى شتى فظائع الكلام مما لا يليق لي، ولا لهذه الصحيفة، أن نكرره لقرائها الكرام. ولكن ما إن قرأه صراف الناصرية، حتى فتح كيسه وأخرج ورقتين أم عشرة دنانير، وضعهما في مظروف وبعث به فورا إلى غرفة الكرخي. فتح المظروف ورأى فيه العشرين دينارا. فتناول القلم ثانية وصحح القصيدة بحيث خرجت في اليوم التالي وهي تستفتح بهذا البيت البليغ:

بالناصرية صراف

خوش آدمي وعنده إنصاف!