محنة في 22 عاصمة.. والإنقاذ يبدأ من تونس!

TT

في مذكرات أصدرها كاتب تونسي عن مسيرة الحبيب بورقيبة، ذكر الشاذلي القليبي أمين عام الجامعة العربية الأسبق، وهو يقدم لها، أنه سمع ذات مرة من الهادي نويرة، رفيق درب الحبيب ورئيس وزرائه أنه (أي نويرة) كان يجد صعوبة بالغة في الحديث مع وزرائه باللغة العربية، على الرغم من إتقانه لها، وأنه كان مُضطرا، حين كان رئيسا للحكومة فيما بعد عام 1970، إلى إدارة جلسات مجلس الوزراء باللغة الفرنسية، ليستطيع كل واحد من الحاضرين أن يعبر عما يريد أن يقوله، بدقة!

ولا أعرف ما إذا كان القليبي قد ساق هذه الحكاية، وهو يقدم للمذكرات، ليقول إن العربية تعاني غربة بين أهلها، أم أنه رواها عابرا هكذا، دون أن يقصد قول شيء مُحدد؟!

غير أن ما أعرفه أن الأول من هذا الشهر، من كل عام، يوافق «اليوم العربي للاحتفاء باللغة العربية»، وأنه حين جاء هذا العام، كانت وطأته ثقيلة على ما يبدو على صدر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) فيما يخص وضع العربية كلغة تواصل بين أبنائها، إذ انتهزت المنظمة فرصة مجيء هذا اليوم، في هذه السنة، ليخرج فيه بيان عنها تقول من خلاله إن لغتنا تواجه تهديدا حقيقيا في بلاد العرب، وإنها في حاجة إلى إنقاذ عاجل، من خلال الإعلام والتعليم ثم الإعلان في إعلامنا عموما.

وحقيقة الأمر أن ما كان الشاذلي القليبي قد رواه عن الهادي نويرة، باعتباره نادرة في زمانه، قد صار يتكرر اليوم، دون استغراب ولا حتى اندهاش من أحد، وأصبح من المألوف جدا أن تذهب إلى هذه العاصمة العربية، أو تلك، لحضور مؤتمر هنا، أو ندوة هناك، فتُفاجأ بأن النقاش يدور بين الجميع بالإنجليزية في الغالب، وقد يدور بالفرنسية أحيانا!

يحدث هذا مع أن المجتمعين يكونون كلهم، أو غالبيتهم على الأقل، من العرب، ويحدث هذا أيضا على الرغم من أن الاجتماع يكون في عاصمة عربية، وعلى أرض عربية!

وتبحث أنت عن مبرر موضوعي واحد لموقف من هذا النوع، فلا تكاد تقع على شيء، اللهم إلا إذا كان الحاضرون في مناسبات كهذه، يسهل عليهم الحديث مع بعضهم وكذلك الفهم عن بعضهم بالإنجليزية، ويواجهون الصعوبة ذاتها التي كان الهادي نويرة يجدها مع أعضاء حكومته، بالعربية!

وحين كنت في تونس، قبل شهر تقريبا، سمعت من الدكتور محمد كامل رئيس المكتب الإقليمي هناك للاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة، أنه كان يوما في مدينة «لقواط» الجزائرية الجنوبية، فلاحظ أن الجزائري في الجنوب لا يكاد يفهم عن الجزائري في الشمال، وكان الطريف حقا أن الدكتور كامل تولى يومها أمر الترجمة بالفصحى بين مواطنين جزائريين؛ أحدهما من أقصى الشمال والآخر من أقصى الجنوب!

يومها تساءلت بيني وبين نفسي، في حزن، عن حال لغتنا بين الناطقين بها على امتداد 22 عاصمة عربية، إذا كان هذا هو حالها داخل الدولة الواحدة!

وبطبيعة الحال، فإن الجزائر ليست فريدة من نوعها في هذا المقام، إذ يحدث كثيرا أن يلتقي عربيان ثم يعجز كل واحد منهما عن التفاهم مع الآخر، من خلال لهجتيهما، ولا يكون الحل إلا بأن يجري الحوار بالعربية الفصحى، وعندئذ يصبح من السهل أن يفهم كل واحد عن الثاني، وأن تنتقل بينهما الأفكار في سهولة ويسر.

والذين سافروا إلى دول الخليج، ونزلوا في فنادقها، يعرفون تماما أن العاملين في الغالبية العظمي من تلك الفنادق، منذ أن تدخل أنت أي فندق إلى أن تغادره، لا ينطقون كلمة عربية واحدة، وكذلك في معظم المطارات، وهي مسألة في حاجة إلى مواجهة سريعة، قبل أن تزيد على حدودها المعقولة، ويصبح المقيم في أي فندق هناك لا فرق بينه وبين المقيم في فندق في لندن أو واشنطن.

ولا أحد بالطبع يمانع في أن تكون الإنجليزية لغة أساسية، في فنادقنا، بل وفي تعليمنا؛ سواء في الخليج أو في القاهرة أو في الرباط، فهي لغة مطلوبة طول الوقت، أولا، وهي اللغة العالمية الآن، ثانيا، ولا غنى عنها عند التعامل مع أي سائح يمر ببلادنا.. ولكن.. بشرط أن تكون العربية حاضرة إلى جوارها، وأن تكون حية ونشطة ومتداولة على مدى اليوم، في مختلف التعاملات.

والشيء المزعج حقا أن «أليكسو»، وهي تنبه بقوة إلى محنة لغتنا القومية بيننا، قد راحت تناشد وسائل إعلامنا، مرة، وترجو القائمين على تعليمنا، مرات، أن يبادروا إلى وقف تدهور مستوى لغة القرآن، في تعاملاتنا اليومية، وعلى ألسنتنا!

ولا بد أن وجه الإزعاج هنا، أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إنما هي إحدى منظمات جامعة الدول العربية، ولذلك، فالمنتظر منها، ليس أن ترجو أو تناشد أو تنادي، وإنما أن تضع ما تراه حلا، ثم تتجه، من خلال الجامعة، إلى إلزام كل أعضائها به، دون تردد، لأننا لا نتكلم عن قضية ثانوية ولا عن قصة ترفيه، وإنما نحن بصدد قضية هي في صميم شخصيتنا القومية بوجه عام.

لغتنا في محنة حقيقية داخل كل بلد بشكل خاص، وبين بلادنا العربية بوجه عام، والعلاج يمكن أن يأتي من ألف طريق، وربما يكون طريق الأزهر الشريف في مقدمتها، ولكن بما أن «أليكسو» هي التي دقت جرس الإنذار أول أيام مارس (آذار) الحالي فلتكن البداية من عندها، ومن داخل مقرها في تونس العاصمة، قبل أن يأتي يوم يلتقي فيه العربيان، فلا يكون أمامهما مفر من الاستعانة بمترجم، كما كان قد حدث فعلا للدكتور كامل في الجزائر.. ذات صباح!