رسكلة في حرية التعبير

TT

لا شك في أن المجتمعات العربية عاشت طويلا – ولا تزال الأغلبية منها - محرومة من حرية التعبير؛ أحد أهم حقوق الإنسان.. وهو عامل مهم ساهم إلى حد كبير في جعل حرية التعبير على عكس ما يُعتقد؛ مسألة يتشدق بها الكثيرون دون أن يكونوا على معرفة بمعناها الحقيقي وتحديدها القانوني، وذلك ليس بالنسبة إلى عامة الناس فقط؛ بل الجهل بمفهوم حرية التعبير ومحاذيرها خاصية من خاصيات العديد من النخب الثقافية والسياسية.

فلقد كشف الإعلام المكتوب والتلفزيوني في بعض بلدان الثورات العربية مثل تونس والقاهرة عن أخطاء فادحة وخطيرة في كيفية تمثل حرية التعبير وفهمها من طرف بعض المثقفين والسياسيين، وحتى أصحاب التكوين القانوني؛ وعلى رأسهم المحامون.

في المرحلة الأولى لما بعد الثورتين التونسية والمصرية، ربما يمكن تفهم حالة الغليان وما قد يترتب عليها من تجاوزات ومن فقدان البوصلة.. ولكن سوء استخدام حرية التعبير وعدم التمييز بينها وبين التجريح والثلب، يكاد يكون ظاهرة تنسحب على أغلبية البرامج الحوارية وأيضا في بعض المقالات التي تغيب عنها الكتابة الصحافية الموضوعية التي تزن الكلمات بموازين المهنية والقانون والخلفية الحقوقية.

المشكلة أن هناك من يعتقد أن حرية التعبير هي أن يقول المرء أي شيء وكل شيء يخطر على باله.. لذلك نلاحظ التجاهر بأسماء أشخاص في مسائل حساسة والإيحاء المباشر بإلحاق التهم بأطراف معينة دون دليل أو إثبات، إضافة إلى تعمد بعض البرامج استضافة بعض الوجوه والعمل على تقزيمها باعتبار أن هذه الممارسات هي علامة الجرأة وحرية التعبير وأنه هكذا تمارس السلطة الرابعة سلطتها.

في الحقيقة، قطع الإعلام في تونس مثلا (على اعتبار أن الإعلام المصري يتمتع بهامش الحرية حتى قبل اندلاع الثورة) خطوات مهمة في مجال حرية التعبير، وأثبت الصحافيون التونسيون كفاءة وقدرة على التميز وأداء الدور المنوط بعهدتهم، ولكن هذا الرصيد النوعي لا بد من المحافظة عليه من خلال التعديل الذاتي والتصدي لتجاوزات البعض باسم حرية التعبير، وهي تجاوزات تؤكد الفهم المغلوط لحرية التعبير ومدى الاستمرار في تبني هذا الفهم المغلوط وممارسته.

فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في 16 ديسمبر (كانون الأول) 1966 يضع ما يقارب ثلاثة محاذير أمام حرية التعبير؛ وهي: عدم إلحاق الضرر بالغير معنويا، أي عدم تشويه سمعة الأشخاص أو المس بكرامتهم باسم الحق في حرية التعبير.

وإن تصحيح التمثلات المغلوطة حول حرية التعبير مسألة في غاية من الأهمية لأنها حرية حافظة بامتياز لحقوق الإنسان وأيضا لفكرة القانون التي انتهكت على امتداد العقود الماضية عدة مرات، ومن غير المعقول مواصلة النهج نفسه من باب خلفي.

نحتاج إلى الانتباه إلى أن الاهتمام بفكرة القانون وعلويته هي حماية للذات قبل الآخر.. فكل ممارسة تنتفي عنها محاذير حرية التعبير المشار إليها سلفا هي خطر على حرية التعبير أولا. لذلك، فإن العمل على نشر الثقافة الحقوقية والقانونية، خصوصا الجوانب المتصلة بحرية التعبير، أمر لا بد منه في بلدان تعيش نقلة في اتجاه الديمقراطية. كما أنه من المهم التفطن إلى أن دمج مادة حقوق الإنسان في البرامج التعليمية لن يؤتي أكله إذا ما استمرت النخب الفكرية والإعلامية والسياسية في اعتداءاتها اليومية على حرية التعبير وباسم حرية التعبير، حيث إن ما ستبنيه المدرسة ستهدمه النخب الحاضرة في وسائل الإعلام.

فالحاجة اليوم إلى رسكلة في مجال حرية التعبير تبدو أكثر من ملحة وعاجلة!