الشعارات الثورية أم الإصلاح الديمقراطي؟

TT

أنهار الدموع وصراخ هستيري في شوارع فنزويلا لتوديع رئيسها الراحل هوغو شافيز أعادت للذاكرة مهرجانات سياسية. جنازة إيفا بيرون كانت الفصل قبل الأخير في مسرحيتها من ممثلة إلى زوجة رئيس إلى زعيمة جماهيرية إلى «قديسة» (بمفهوم الثقافة الكاثوليكية) بعد موتها عام 1952، وتخليدها في شعبية متعددة اللغات في أوبريت واستعراضات في لندن وبرودواي وغالبا ستضيف الشعبوية ألقابا أخرى إلى «كومندانتي» (القائد) لشافيز «كالشهيد» بادعاءات مضحكة تتهم أميركا باغتياله بالسرطان (لماذا لم يختر شافيز العلاج في ألمانيا أو كندا بدلا من كوبا التي لا تتوفر فيها قطع غيار سيارات بدائية؟).

استعراضات جنائزية ميلودرامية بطولة جماهير تبكي شبح الديكتاتور ولا تبكي على ثروات البلاد التي أهدرها الفقيد العزيز كما شهدنا عام 1970 في جنازة الرئيس المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر.

بعكس الكولونيل ناصر الذي أتى إلى السلطة بانقلاب عسكري فإن شافيز (بدا أيضا ضابطا عسكريا)، تكرر إعادة انتخابه، بفضل ثروة بترولية كان يمكن أن تضع فنزويلا على قمة بلدان أميركا اللاتينية في مستوى المعيشة، لكن حكم شافيز وضعها رقم 11 في القارة في مجال التنمية البشرية وراء بلدان بلا ثروات طبيعية تقارن (فنزويلا رقم 73 دوليا بينما بقية البلدان البترولية ضمن 35 الأولى).

كبقية شعوب أميركا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط، اختار الفنزويليون شعبوية الغضب بإلقاء اللوم على الغرب والاستعمار (الذي رحل قبل مولد 90 في المائة من السكان ويستمر المستعمر السابق في منح الدعم السخي لها)، بدلا من اختيار طريق الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية.

تقول زميلة صحافية من كراكاس «الفارق بين رئيس جيد، وآخر سيئ، هو الفارق بين ارتفاع أو انخفاض سعر البترول المصدر»، مضيفة أن الارتفاع غير المتوقع في أسعار البترول جعل شافيز رئيسا قابلا لإعادة الانتخاب. لكن شافيز (كصديقيه، الكولونيل القذافي، وصدام حسين) فضل إنفاق الثروة غير المتوقعة (لا على بناء قاعدة صناعية) على مشاريع دعائية ومغامرات خارجية.

قدم البترول مدعوما (من أموال شعب فنزويلا الفقير جدا مقارنة بالإنجليز) إلى عمدة لندن اليساري كين ليفنغستون، بخمس السعر العالمي لتشغيل الباصات الإنجليزية وتخفيض ثمن التذاكر ليعاد انتخابه (خسر العمدة الاشتراكي الانتخابات لاعتراض اللندنيين على إهداره ضرائبهم على تنظيم احتجاجات ضد زيارة الرئيس جورج بوش، والاحتفال بذكرى ثورة كاسترو).

أنشأ شافيز من الوزارات والهيئات أضعاف ما أنشأته البيروقراطية السوفياتية لتثبيت النظام بالبروباغندا وشغل الشعب بالشعارات بلا تنمية لوسائل الإنتاج. ومثل البعث في العراق والاتحاد الاشتراكي في الناصرية المصرية (أصبح الحزب الوطني في عهد مبارك) كان المنتفعون أقلية مثل «القمصان الحمراء» (كوادر حزب شافيز) الذين كونوا الثروات من عقود في المشاريع الوهمية الاشتراكية، فسماهم الصحافيون بالطبقة «البوليفاركية» (مركبة من كلمتي بوليفيا وأوليغاركية)، لعب لفظي ساخر بمصطلح «الثورة البوليفية» في خطب شافيز الشعبوية مستحضرا شبح بطل فنزويلا التاريخي سيمون بوليفار رمز استقلال أميركا اللاتينية.

ما هي جاذبية النموذج الشافيزي الغوغائي لجماهير الشارع وللأصوات الانتخابية؟

رفائيل كوريريا في الإكوادور، وإيفو موراليس في بوليفيا (وزعماء ما بعد الانتفاضات في تونس ومصر).. يصعب تسمية أي منهم «ديكتاتورا» بمقاييس علوم السياسة، لأنهم جاءوا عبر صناديق الانتخاب، لكنهم ضد مؤسسات الديمقراطية التي ركبوها إلى محطة قصر الرئاسة.

كلهم تجاوزوا الشرعية البرلمانية (أو عطلوا البرلمان)، وأغلقوا أو شلوا المحاكم الدستورية (أو نظم التنظيم السري الحصار لشل حركتها كالحالة المصرية)، وكمموا الصحافة الحرة والمنظمات المستقلة، أو أرهبوها بتهمة العمالة للبرجوازية أو للقوى الغربية أو الثورة المضادة (الفلول في مصر). في البرازيل، والباراغواي، والأوروغواي، والأرجنتين ألغيت المؤسسات الدستورية (الملاذ الأخير لشرعية القانون) بانتقال السلطة التنفيذية إلى قوى يسارية راديكالية باشتراكية ستينات القرن الماضي المتطرفة في قهرها للحرية الفردية ومبادرات الابتكار الاقتصادي.

الفشل الاقتصادي والإداري، وغريزة التمسك بالسلطة، تدفع الحكام اليساريين إلى افتعال العراك مع واشنطن، الغرب، صندوق النقد الدولي، الاستعمار. رئيسة الأرجنتين اليسارية كريستينا كيرشنير تحول الأنظار عن عجز نظامها عن مواجهة مشاكل الاقتصاد، ورفضها الإصلاحات الدستورية وتقليصها صلاحيات واستقلالية القضاء، بإذكاء نيران الوطنية الزائفة بهجومها على بريطانيا ورفضها الاعتراف باستفتاء سكان جزر الفولكلاند بالبقاء تحت التاج البريطاني (جزء من بريطانيا قبل استقلال الأرجنتين نفسها) وربما تغامر بحرب كسابقها زعيم الانقلاب العسكري غالتيري عام 1982.

وعندما لا يجد الزعماء الغوغائيون «عدوا» خارجيا يفتعلون العراك مع بعضهم البعض حتى لا يواجهوا المشاكل الحقيقية ومطالب الشعب.

كرر شافيز تهديداته لكولومبيا، ويطالب موراليس بمقاطعات «فقدتها» بوليفيا لتشيلي في القرن الـ19، والرئيس المصري يصرخ بدعم «أشقائه» في غزة، متناسيا الفوضى في شوارع بلاده، والخزانة الأكثر فراغا من الفنادق. فآخر ما يريده الزعماء مريدو الطريقة الشافيزية، هو أن تحاسبهم شعوبهم على تقصيرهم أو أدائهم لمهام الوظيفة التي انتخبوا لشغلها.

الإجابة عن السؤال، لماذا نجحوا في صناديق الانتخاب في عبارة واحدة «دور الدولة الأبوي»؟

في نماذج أميركا اللاتينية، وبعض دول الربيع العربي، تجد هؤلاء الزعماء جزءا من نظام «الدولة» هي كل شيء، لكنها في الحقيقة لا تقدم شيئا يذكر من أجل التنمية البشرية أو رفع مستوى المعيشة أو خلق المناخين التشريعي والسياسي لدعم المبادرات الفردية نحو ابتكارات الاستثمار الاقتصادي.

فقط اعتماد الأفراد على الدولة في توظيف الخريجين (في وظائف لا إنتاجية تزيد معدلات التضخم) وقروض إسكان، ودعم سلع أساسية، ومواصلات وخدمات، والجميع موظفون «ميري»، وليس هناك مشاريع تنمية، والصحافة مؤممة أو مدعومة (تروج لرئيس يلوح بعلم الكرامة الوطنية في معارك دونكيشوتية).

وبعد أسابيع من الحزن، والمرثيات وطوابير زيارة الجثمان غالبا سيدفن شافيز في داخل نصب تاريخي، وقد يتحول، مثل إيفا بيرون، إلى رمز «نضالي» يقدسه الاشتراكيون اليساريون لكنه سيبعث سياسيا في أماكن أخرى، بأسماء ولغات وشعارات تختلف شكلا بالمضمون نفسه (الديناصور السياسي) لا يتغير لتستمر النسخ الشافيزية في إهدار ثروات الشعوب في مهرجانات وشعارات الكراهية للغرب من دون محاولة للتنمية الاقتصادية والإصلاح الديمقراطي.