.. والديمقراطية خسرت المنطقة

TT

اعتبر تحليل إخباري نشرته صحيفة «فايننشيال تايمز» بمناسبة انقضاء عشر سنوات على الغزو الأميركي للعراق أن الولايات المتحدة كسبت الحرب، فيما كسبت إيران السلام وتركيا العقود التجارية.

مختصر مفيد لحالة العراق اليوم. ولكن ما غفلت الصحيفة عن ذكره هو أن الحصيلة الأبرز للحرب كانت خسارة الولايات المتحدة معركة الديمقراطية في الشرق الأوسط.

رغم أن الأمانة الإخبارية تفترض التوضيح بأن معظم مكاسب تركيا الاقتصادية والاستثمارية في العراق تعود إلى علاقتها المزدهرة مع إقليم كردستان أكثر بكثير مما تعود إلى علاقتها مع السلطة المركزية في بغداد، تبقى ملاحظة الصحيفة بأن إيران كسبت «السلام» في العراق وصفا دقيقا، ولكنه ملطف لواقع النفوذ الإيراني في العراق.

قد تكون المفارقة الجديرة بالذكر في هذا السياق أن إدارة الرئيس جورج بوش، يوم ادعت أنها رأس حربة حملة العالم الديمقراطي على ما كانت تصفه «بالإرهاب الدولي» وتترك لوسائل إعلامها مجال نعته «بالإسلامي»... اختارت دولة عربية علمانية (وإن فاشية)، بعيدة كل البعد عن الأصوليات الدينية المتشددة، لتجعلها أمثولة للعالم عن كيفية التعامل مع الإرهاب، فكان أن دمّرت العراق اللاطائفي وقدمته هدية مجانية لإيران الطائفية، ثم أكملت جميلها بإحباط قيام الدولة الديمقراطية البديل في العراق «المحرر».

لو حققت واشنطن في العراق نصف ما وعدت به في سياق التحضير الإعلامي لغزوه، لربما كان العراق اليوم دولة عربية ديمقراطية رائدة في الشرق الأوسط. ولكن واشنطن أخطأت في العنوان وأخطأت في الإعلام معا فكان أن تركت المنطقة برمتها تدفع ثمن انتعاش الجمهورية الإسلامية في إيران على حساب زوال العقبة العراقية متيحة لها فرصة تاريخية لمد نفوذها – الأصولي الواجهة والسياسي المضمون – إلى سوريا ولبنان واليمن وغزة.

هذا لا يعني إعطاء التجربة الأميركية في العراق أهمية تفوق ما تستحقه بالفعل. ولكن أهميتها تبقى في أنها سابقة الاحتلال الأميركي الأول لدولة عربية. من هذا المنظور كان يفترض أن يخلف هذا الاحتلال أثرا إيجابيا واحدا على الأقل يبرر اللجوء إليه... ولأن الدولة المحتلة هي الولايات المتحدة بالذات كانت الديمقراطية الإرث المتوقع أن تخلفه.

ولكن منذ «تحرير» العراق – والأصح منذ إزالة العقبة العربية الأولى في وجه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط – لم تبق دولة عربية واحدة بمأمن من خطر «الإرهاب»، من جهة، ولا نظام ديمقراطي بمأمن من الانهيار، من جهة أخرى.

ويوم أتاحت الثورة السورية لواشنطن التعويض – ولو جزئيا - عن إخفاقاتها في العراق وقدمت لها على طبق من ذهب فرصة دعم ربيع ديمقراطي بدا واعدا، سياسيا، أكثر من أي ربيع عربي آخر... ترددت وتلكأت في تسليح الثوار وتذرعت بخطر وقوع الأسلحة في أيدي «الإرهابيين» الذين شرّعت لهم أبواب الشرق الأوسط باحتلالها العراق.

بعد عشر سنوات على غزو العراق، لا «الإرهاب» تلقن درسا لا ينسى ولا الديمقراطية حققت إنجازا يذكر.

حتى الدولة الموصوفة بالأكثر ديمقراطية في العالم العربي، أي لبنان، مهددة اليوم بفقدان واجهتها الديمقراطية التوافقية تحت وطأة ضغوط حلفاء إيران ونظامها الأصولي – الأوتوقراطي. وقد لا تكون مجرد صدفة أن تصبح الديمقراطية التوافقية في لبنان، هي أيضا، ضحية المد «الأصولي» في الشرق الأوسط في حال إقرار مشروع قانون انتخاب مسمى «بالأرثوذكسي» لا تخفى أصوليته السياسية بحكم تأسيسه لسبعة عشر كانتونا مذهبيا عبر حصره حق الاقتراع لنواب الطوائف اللبنانية بأبناء طائفة النائب فقط دون غيرهم من مواطنيهم.

وبالمقابل، لا يبدو أن إدارة الرئيس أوباما ستكون أكثر حظا من سابقتها في تبني دبلوماسية احتواء الأنظمة الإسلامية «المعتدلة» في العالم العربي، فعلى هدي المقولة الشعبية بأن «المكتوب يقرأ من عنوانه» يمكن الاستنتاج منذ اليوم أن النظامين المصري والتونسي لا يبشران بطول إقامة في السلطة.