قديم مصر وجديدها في حكاية الميليشيات المسلحة

TT

المادة 37 من قانون الإجراءات الجنائية تعطي للمواطن الحق في «الإمساك» بمواطن آخر في حالة التلبس بارتكاب جريمة ثم «تسليمه» لمأموري الضبطية القضائية، أي للشرطة. غير أن هذه المادة لم تحدد مدة هذا الإمساك ولا مكانه ولا شروطه، بل إن المادة كانت حريصة على عدم استخدام مصطلحات قانونية شهيرة مثل القبض والاحتجاز، مكتفية باستخدام كلمتي الإمساك والتسليم. هذه المادة ظهرت فجأة على سطح الأحداث في الوقت الذي بدأت تتكلم فيه أحزاب الإسلام السياسي عن تشكيل «لجان شعبية» تتولى حماية المنشآت والممتلكات الخاصة والعامة بإشراف مسؤولين من الشرطة، على حد قولهم. هكذا بدت هذه المادة من القانون وظروف إعلانها وتوقيته، كأنها دعم مباشر لهذا الاتجاه الجديد والمؤسف، الذي يعلن تسليم المجتمع بنهاية الأمن المصري كمؤسسة تابعة للدولة وبداية عصر الميليشيات المسلحة في مصر، ربما بعد ما حققته من نجاح ساحق في بلاد أخرى.

ولما كان من المستحيل عزل المشرِّع عن ظروف العصر الذي يعيشه، لذلك أحاول قدر الإمكان استعادة الظروف التي صدر فيها هذا القانون في عام 1950 أي قبل ثورتنا الأولى (يا رب خليهم ثورتين بس)، أي حاولت الغوص في عقل ذلك المشرِّع القديم لأعرف ماذا كان يعني عندما استخدم هاتين الكلمتين، الإمساك والتسليم. هو يفترض أن المواطن الماسك كان في نفس المكان الذي ارتكب فيه المتهم الممسوك جريمته، أو قريبا منه، وهذا ينطبق على الجرائم المعتادة في الشارع مثل اللصوصية، فمن البديهي حتى في غياب هذا النص عند مشاهدة جريمة قتل مثلا، أن تتعاون مع الآخرين للإمساك بالقاتل وتسليمه لرجال الشرطة، الذين سيخفون إلى المكان بمجرد أن تصيح: يا شاويش.. فقد كانت مصر - كل شارع كل حارة كل قرية - في ذلك الوقت مغطاة بشبكة حقيقية من رجال البوليس (الشرطة في ما بعد).. الصيحة الوحيدة في ذلك الوقت التي كانت بديلا عن كل تكنولوجيا الاتصال في عصرنا هذا - هي كلمة: الحقوني، أو روحوا لي يا هوه.

وأشهر أنواع الجرائم في ذلك العصر كانت اللصوصية بأنواعها البدائية التي تتسم بالفاقة وقلة الحيلة، مثل سرقة الغسيل من على أسطح المنازل (حرامي الغسيل) وسرقة الحلل وهي الطناجر أو أواني الطهو، والمتخصص فيها وهو أحط أنواع اللصوص، كان يسمى حرامي الحلة، التي كانت تصنع من النحاس في ذلك الوقت قبل استخدام الآنية الرخيصة المصنوعة من الألمنيوم. في طفولتي، كثيرا ما شاهدت عددا كبيرا من البشر يمسكون بشخص معه حلة وهم ينزلون فيه ضربا، ثم النشل في وسائل المواصلات والأماكن المزدحمة، ثم سرقة أحذية المصلين من المساجد، وهي السرقات التي اختفت لسنوات طويلة وعادت إلى الظهور هذه الأيام، بعد أن حرص عدد كبير من المصلين على ارتداء أحذية غالية مستوردة من بلاد الكفار. أما أعلى اللصوص منزلة، فهو الهجام الذي يتسلق المواسير ليقتحم الشقة عبر باب المطبخ. وحتى الآن، ما زال رسامو الكاريكاتير يعتزون بهذا اللص متسلق المواسير الذي يرتدي الفانلة المخططة.

بالتأكيد، كان المشرع القديم يفكر في كل هذه المعطيات عندما أصدر قانونه، من المؤكد أنه لم يفكر في أن هناك مشكلة في تسليمهم لمأموري الضبطية القضائية، فهم دائما في دائرة المكان أو قريبون منه، وسيتولون حماية المتهم من الجمهور الغاضب. ولكن مع الأحوال السائدة الآن في مصر، هل يمكن عمليا وواقعيا في كل الأحوال تطبيقها؟ سأفترض أنك قادر بالفعل على الإمساك بالمتهم الذي شاهدته - حضرتك - يرتكب جريمة، وأمسكته بالفعل، وهو مجرم وحيد مقطوع من شجرة، ليس معه في المكان أتباع وزملاء وأبناء كار، بالطبع ستتصل بشرطة النجدة، في الغالب سيردون عليك: خدوه على القسم يا مواطن.. سيارة النجدة ها تتأخر عليك.. ممكن تيجي لك بعد خمس ساعات.. أنت فين دلوقت.. فين؟.. لأ.. سيارة النجدة مش ها تعرف توصل لك، لأن كوبري أكتوبر مقطوع.. لا والله ما عنديش هليكوبتر.. اسمع الكلام.. خدوه على القسم.. لأ مش أي قسم.. خدوه على قسم ما يكونش عامل إضراب.. عاوز نصيحتي.. سيبوه.. افقعوه علقة وسيبوه.

إن إخراج هذه المادة من تحت طيات الزمن وعرضها على الناس، لا يحل أي مشكلة، بل يزيد كل مشاكلنا خطورة وتعقيدا. هي حبل نجاة قانوني لكل من يفكر في عمل ميليشيات مسلحة بغض النظر عن نوعية الأسلحة التي تنوي هذه الميليشيات استخدامها. لقد استمعت لأحد المتحمسين لهذه الميليشيات يقول إنها ستكون مسلحة بـ(رادع)، أي عصا كهربية.. قالها في براءة يحسد عليها. أتصور أن أحد التجار الشطار بعد أن شاهد البرنامج، في طريقه الآن إلى الصين، وأتصور المسؤول الصيني في مصنع ما يقول له: تحت أمرك.. عندنا عصاية، الضربة منها تشل الزبون ساعتين، وعصاية تانية الضربة منها تخليه ينسي هو ساكن فين.. وفيه عصاية، الضربة منها تخليه يقعد يترعش يومين.. وفيه واحدة رخيصة، الضربة منها تخليه يغمى عليه ربع ساعة..

نحن لسنا أعضاء في جماعة دينية تحت قيادة فقيه أو مرشد أعلى، بل نحن مواطنون نعيش في وطن. والوطن شركة مساهمة، ونحن جميعا أعضاء في جمعيتها العمومية، وعلى مجلس إدارة هذه الشركة أن يحترم قوانين الشركات المساهمة، أي قواعد الحكم وقوانين الأوطان. نحن لا نعيش هناك في السماء، بل نحيا على الأرض، وعلينا أن نحترم كل القوانين والقواعد التي توصل إليها البشر على الأرض. تلك القوانين التي صنعت بلادا ودولا ينعم فيها المواطن الفرد بحماية الدولة لكي يتفرغ للإبداع في عمله. لم تعد هناك آيديولوجيات تحكم الدول والشعوب، هناك فقط حقوق الإنسان الفرد على هذا الكوكب الصغير. المؤسسة الأمنية ليست ترفا أو اختيارا يحق للبعض رفضه، هؤلاء هم منفذو القوانين (law enforcers)، نحن في حاجة إلى حمايتهم، وهم أيضا في أمس الحاجة إلى حمايتنا، ليس لأنهم أبناؤنا وإخوتنا، إلى آخر هذا الكلام السخيف الذي لا يعني شيئا، بل لأنهم أعضاء في المؤسسة الأمنية. وعلى هؤلاء الذين يريدون العودة إلى الغابة أن يعرفوا أنهم سيكونون أول ضحايا وحوشها. لا داعي لإشعال النيران، فلن نكون وحدنا وقودا لها.

أما مقولة إنه يجب ألا تعمل المؤسسة الأمنية لحساب النظام في مصر وإنما لحساب الشعب، فهي الأخرى مقولة في حاجة إلى مراجعة. عندما تهاجم مجموعة من الصبية فندق سميراميس وتسرق محلاته وتحاول إشعال النار فيه، فما الخط الفاصل بين النظام والشعب.. ماذا يجب أن تفعل على الأرض؟ على كل الحسابات الصغيرة أن تتوارى وأن ننشغل فقط بالدفاع عن مصر والمصريين.