الزعيم اللبناني الجديد: حنا غريب

TT

البعض يشبهه بالبولوني الثائر ليش فاليسا، الذي وصل إلى سدة الرئاسة في بلاده بسبب معاركه النقابية الناجحة، والبعض الآخر يعتبره جامع شمل اللبنانيين وكاسر شوكة تحالفي 8 و14 آذار، وثمة من يراهن على حركته المطلبية الديمقراطية، معتبرا أن من رحمها سيولد الربيع اللبناني المنتظر العابر للطوائف والمذاهب.

مبالغة في التفاؤل، ربما، لكن ما أنجزته هيئة التنسيق النقابية خلال الأشهر الماضية، بقيادة رئيسها حنا غريب، يمكن اعتباره «بروفة» أولية لما يمكن أن يتطور ويتحول إلى حركة شعبية لبنانية شاملة، إن وجدت الفرصة السانحة، ولم تلتهمها أحداث أمنية متسارعة قد تطرأ في أي لحظة. فقد أعلنت هيئة التنسيق، بعد فشل مفاوضاتها التي دامت سنة ونصف السنة مع الحكومة، إضرابا مفتوحا منذ ما يقارب الشهر، ودخلت مدارس لبنان الرسمية برمتها، وإداراته الحكومية، في شلل وعجز شبه تامين. مئات آلاف الطلاب في المنازل، ومثلهم من المعلمين والموظفين، مضربون عن العمل، فيما تتنقل المظاهرات من وزارة إلى مرفق حيوي، ومن مؤسسة إلى مركز سياحي، تهتف ضد «حيتان المال» و«أرباب الفساد»، وتكشف مزاريب الهدر، معلنة أن المسروق من مال الناس بمقدوره أن يمول عشرات السلاسل، وليس سلسلة واحدة.

أستاذ الكيمياء، حنا غريب، بوجهه الممتلئ المحمر باستمرار، مما يوحي بالاندفاع والحماسة، وشاربيه الكثين، وخطاباته النارية، وحركته التي لا تكل، ومعرفته التفصيلية المتينة بملف الأساتذة والموظفين ومطالبهم المحقة، وتحايل الحكومات المتلاحقة لقضم حقوقهم والالتفاف عليها.. كل ذلك جعله يبرز كمدافع لا يضاهى عن حقوق المظلومين، في مواجهة السياسيين كما المختلسين والمضاربين.

حنا غريب ليس مجرد أستاذ مقهور يريد زيادة على راتبه، وقد لا يكون بالبراءة التي يصورها البعض، أو بالتلقائية التي يحاول أن يعكسها في مداخلاته التلفزيونية الذكية، فالرجل من الواضح أنه من الدهاء بحيث رسم خططه وجمع معلوماته ورتب ملفاته، وفي جعبته أرقام وفيرة لسرقات واختلاسات، يعلن عنها بالتدريج، في حرب تكتيكية وتصعيدية تستحق التأمل.

«إنها بداية انتفاضة ثورة الجياع في لبنان»، هكذا وصف رئيس «حركة التنسيق النقابية» الزحف البشري الذي قاده من كل لبنان باتجاه بيروت، وأمام المرفأ أعلن أن 750 مليون دولار قيمة التهريب التي يبتلعها المنتفعون، ومن داخل «الزيتونة باي»، المرفق السياحي البحري الراقي الذي اقتحمته المظاهرة، أعلن غريب أن «استثمار متر واحد من (الزيتونة باي) يساوي 2500 ليرة لبنانية (نحو دولار ونصف دولار) لمدة خمسة وعشرين عاما.. وقد سُجّل لأحد الوزراء، وسنسمي غيره وغيره، ولن نسكت عن شيء، وسنمول السلسلة ليس عبر الفقراء، بل عبر الهيئات الاقتصادية». يعرف غريب كما اللبنانيون اسم الوزير البارز المعني، لكن لا شك أن الرجل يترك الأسماء لمرحلة مقبلة. كل يوم تذهب المظاهرات إلى مؤسسة جديدة لتضمها إليها.. المطار، وتفاعل موظفي الطيران المدني وتهديدهم هم أيضا بالإضراب المفتوح، يزيد من وزن التحرك، وثقله على حكومة مرهقة وعاجزة.

وعدت الحكومة بجلسة خاصة يوم الخميس المقبل لتحويل مشروع تمويل السلسلة إلى مجلس النواب، لكن ثمة شكوكا حول وصول هذا الإضراب الكبير إلى خواتيمه السعيدة. فهيئة التنسيق ترفض تمويل الرواتب من ضرائب تطال جيوب الفقراء وتعفي الأغنياء، وهو تماما ما ستضطر الحكومة لأن تفعله، لأن مافيات المال في لبنان هي المتحكمة في مفاصل الدولة، فيما بات اقتحام السياسيين بكل سطوتهم ونفوذهم المعترك الاستثماري وباءً تصعب مكافحته، أو الحد من جشعه وفساده، من دون حركة شعبية هائلة.

هيئة التنسيق النقابية اليوم هي في مواجهة الهيئات الاقتصادية التي تحذر من انهيار مالي في حال أقرت السلسلة. فهل على لبنان أن يختار بين أن يبقى تلامذته في البيوت ويخسروا سنتهم الدراسية، أو أن تعلن الدولة إفلاسها؟ هذا على الأقل ما يحاول أن يشرحه المتمولون ويرفضه النقابيون.

واقع الأمر أن المسألة أعقد من ذلك، فلو أقرت السلسلة، وتم انتزاع الملياري دولار المطلوبين سنويا لحل هذه المشكلة من جيوب الأغنياء، فإن القطاع الخاص كله سيدخل في أزمة، إذ من الآن يشرح موظفو المصارف أن راتب الأستاذ في حال ارتفع كما هو متوقع فإنه سيصبح ضعف راتب موظف مصرفي عادي يخدم منذ عشرين سنة.

حنا غريب يطالب الموظفين بتشكيل نقابات والانضمام إلى هيئته لإعلاء الصوت، ويقول «إن ستين مليار دولار هي كم النهب الذي أخذ من أموال الفقراء في لبنان، ونحن نريد ممن سرق أموالنا أن يعيدها إلينا»، لذا «يشترط أن تطال الضرائب الريوع المصرفية والعقارية والأملاك البحرية والنهرية». ويشرح غريب أن الدولة قامت بتجميع ضرائب فاقت 2400 مليار ليرة، ولا تحتاج السلسلة أكثر من نصف هذا المبلغ.

يبلغ عدد موظفي القطاع العام في لبنان 270 ألف موظف، أي 20 % فقط من القوى العاملة، ورفع رواتبهم سيجعل الميزان يرتج، ويوقع فئة أخرى من الموظفين في فقر إضافي بعد أن ترتفع الأسعار.

تلبية طلبات الزعيم النقابي حنا غريب المحقة ستحل نصف المشكلة وتفاقم نصفها الآخر، وسيبقى لبنان يخرج من إضراب ليدخل غيره. الشوارع اللبنانية تغلي بالمحتجين والمضربين. تكتيك حنا غريب بما يتسم به من سلمية ومدنية واستقلالية ومنطقية في الخطاب يستقطب ويجمع الناس حوله. للرجل اليوم من ثقة وإعجاب المواطنين العاديين ما ليس لرئيس حزب تقوقع في طائفته وانكفأ على جمهوره. غريب العابر للطوائف والمتربع على عرش الطبقة الوسطى المهددة بالانهيار نموذج لزعيم له من الكاريزما والرؤية ما يجعله قادرا على قيادة حركة شاملة جامعة، خاصة أن الأساتذة والموظفين يشعرون بالامتهان، لأن الحكومة لا تعبأ بهم، لكن الأخطر أن أهالي الطلاب - وهم الأكبر عددا - لا يغفرون للحكومة أن تستخف على النحو الذي نراه بمستقبل أولادهم وسنتهم الدراسية المهددة.

في الوقت الذي يبدو فيه الطاقم السياسي، بمعارضيه ومواليه، أعجز من أن يتفق على قانون انتخابي ينقذ البلاد، يأتي رئيس هيئة التنسيق النقابية اللبنانية ليصرخ في وجههم جميعا بأنهم فاسدون ومختلسون، وفي أحسن الأحوال ظلمة ومجحفون، وخلفه تتنامى الجماهير المحتجة والغاضبة.

احذروا حنا غريب!.. الرجل ليس بالسذاجة التي تظنون.