الكلاسيكو السعودي

TT

لمن سيقرأ باقي السطور منتظرا ومتوقعا أن يكون الحديث عن لقاءات كرة قدم بين أندية الهلال والاتحاد أو النصر والأهلي، فسيصاب بخيبة أمل كبيرة، حيث إن الموضوع التالي لا علاقة له بكرة القدم، وإن كان فيه «أهداف» مهمة وتسللات مكشوفة!

أسدل الستار على معرض الرياض الدولي للكتاب، ذلك المنتدى الثقافي الأدبي الأبرز وإحدى أهم المناسبات «الكتابية» في الشرق الأوسط، ويستمر المعرض لتكريس مكانته المهمة في الوجدان الشعبي والاجتماعي السعودي، والأعداد خير برهان، فعدد الزوار الذين زاروا المعرض وصل إلى معدلات قياسية غير مسبوقة في السنوات التي مضت، وكذلك الحال بالنسبة لمعدلات البيع للكتب المعروضة، لتعود عادة جميلة قديمة، وهي الإهداء بالكتاب، وهي إحدى الحسنات المهمة واللافتة لهذا المعرض الناجح.

كان الكثيرون يصورون المعرض على أنه في واقع الأمر ما هو إلا مواجهة شرسة وعنيفة بين التيار المحافظ المتشدد وبين التيارات المنفتحة المسماة بالليبرالية، وأن المعرض في واقعه ما هو إلا فرصة وساحة وملعب لتصفية الحسابات القديمة، وبات بالتالي «منتظرا ومتوقعا» كل عام أن يسمع ويشاهد الاعتراضات والاحتجاجات المختلفة باسم الاحتساب الشرعي على وجود المرأة وعلى بعض الكتب وعلى فكرة المعرض ككل باعتبارها دعوة لـ«الفتنة» و«التغريب».

على الرغم من أن المعرض قد راعى كافة المحاذير الشرعية وأجاز عناوين الكتب بعد مراجعة مناسبة من الأعلام، ولكن هناك من يستغل هذه الفرصة لتحقيق «إنجازات» شعبية والحفاظ على الرصيد الجماهيري له، لكن اللافت جدا أن معرض هذا العام لم يشهد نفس القدر من «الإثارة» والمواجهات التقليدية كما هو الحال كل عام، ويبدو أن الناس قد قبلوا دور المعرض في حياتهم وأصبح الشوق إليه ومنتجاته مادة خصبة لكافة شرائح المجتمع السعودي برجاله ونسائه وشيوخه ومشايخه وشبابه وأطفاله كما تؤكد الصور الواضحة في أجنحة وأروقة المعرض، وهي أكبر وأبلغ دليل، وشهادة على أن المعرض لقي القبول والاستحسان وأصبح جزءا أساسيا من برنامج الأسرة السعودية القادرة على الحضور من مختلف أنحاء المملكة بلا شك ولا جدال.

واضح أن السعوديين عموما باتوا يرون أن «معركة معرض الكتاب» ما فيها سالفة ومضيعة للوقت، وأن موضوع ما يتم به شحن الناس وتشجيعهم بشكل هستيري وتصوير معرض الكتاب والقائمين عليه بأنه غزو تتاري ومغولي في آن واحد، اكتشف الناس بحسهم الفطري وذكائهم أن الموضوع بسيط جدا، وأن المعرض ما هو إلا فرصة للتواصل مع أهم دور النشر العربية والتعرف على آفاق فكرية وثقافية واسعة من دون حكر وحصر ولا هيمنة من أحد. وهذه مسألة غاية في الأهمية في تطور الشعوب واتساع مداركها حتى تنعكس بالفائدة المرجوة والمتوقعة على المجتمع والأسرة والعمل بأشكال مختلفة ومهمة في آن واحد.

آن الأوان لأن يكون للسعوديين هموم أكثر أهمية وأكثر جدية ليشغلوا بها أنفسهم لمواجهة التحديات المهمة في بلادهم بدلا من الانغماس في قضية مثل «معارك معرض الكتاب» التي تشل المجتمع وتبعثر الجهد وتحرق الأعصاب بلا أي فائدة مرجوة أبدا. في مجمله حقق معرض الكتاب العديد من النتائج الإيجابية المهمة جدا وساهم في تحقيق فرص جادة ولافتة للسعودي في أن يوسع مداركه ويحصل على العلم والمعرفة والمعلومة من دون تكبد مشاق السفر وعناء شحن الكتاب بل وحتى تهريبه في الكثير من الأحيان ليشعر بأنه يمارس حقه الطبيعي والمتوقع في الاطلاع وتثقيف نفسه بشكل واضح وصريح، وهي مسألة تحققت وتتحسن بالتدريج.

«الكلاسيكو السعودي» أو المواجهة السنوية المتوقعة بين الأطراف المختلفة في موقع معرض الكتاب أصبحت مملة جدا وبلا أي متعة ولا فائدة، والجمهور «ملّ» وانصرف عنها، وفي ذلك الأمر الفائدة الكبرى للمجتمع السعودي وللمعرض حتى يصرف الأمر والانتباه إلى مسائل أهم وتحقق الفائدة والمنفعة للكل وليس لفئة بعينها. انتهى معرض الكتاب وأعتقد من مشاهدتي شخصيا وتجولي في أروقته أن السعوديين تخطوا «القلق» المستمر مع الأحداث الكبرى، ويؤكدون بثقة لأنفسهم أنهم قادرون بالعقل والفطرة على «كشف» التطرف والتشدد والتنطع، وهو ما حصل في معرض الكتاب.

قراءة ممتعة.. وكل معرض كتاب والكل بخير.