شفرة دافنشي والملائكة والشياطين!

TT

لا يمكنك أن تتابع العملية المثيرة لاختيار رئيس جديد للكنيسة الكاثوليكية إلا ويقفز إلى ذهنك فورا ما أتت به روايتا «دان براون»، اللتان تحولتا إلى فيلمين شهيرين «شفرة دافنشي» و«ملائكة وشياطين». في كلا العملين، تمت إعادة خلق قصة كنيسة روما ومقعد القديس بطرس، ودولة الفاتيكان ووضعها في إطار العصر الذي نعيش فيه، حيث جرى استدعاء الديانات ما قبل المسيحية في الرواية الأولى، بينما حضر الصراع بين العلم والدين في الثانية، وفي كليهما كان تاريخ الإنسانية يعاد ترتيبه والنظر فيه من جديد، ليس من قبل متخصصين ومؤرخين، وإنما من قبل العامة في المكتبات، والنظارة في دور العرض السينمائي. وأذكر - كما هي العادة في الزيارات إلى الولايات المتحدة أن يعطى المهتمون بالكتب والكتابة بعضا من يوم للتجول في واحدة من المكتبات الشهيرة - أنني ذهبت إلى واحدة منها في مدينة «برينستون»، حيث وجدت طاولة كاملة من الكتب الملونة والصور والخرائط بأحجام كبيرة، تصور وتشرح ما جاء في فيلم «ملائكة وشياطين»، من خلال إعادة إنتاج مدينة روما، والفاتيكان في قلبها من جديد. قلبت في الكتب ونظرت فيها، وتذكرت أن أدبا وعلما مثل هذا ليس منتشرا في المكتبة العربية، وربما باستثناء رواية «عزازيل» للروائي المصري يوسف زيدان، ومن بعدها «النبطي»، لن تجد الكثير عن تلك اللحظة المثيرة تاريخيا لمولد الديانات السماوية التي تصنع تاريخها الخاص، الذي يلغي كل ما كان قبلها ثم يبدأ بعدها التاريخ «الحقيقي» للبشرية.

ظهر الدخان الأبيض من أعلى كنيسة «السيستين» الشهيرة في قلب روما، وأعلن انتخاب الأب جورجيو ماريو بيرجوجليو رئيسا للكنيسة الكاثوليكية ودولة الفاتيكان، وأصبح حاملا لاسم القديس فرانسيس، كما هي العادة أن يحمل رأس الكنيسة اسما لواحد من القديسين وسبب إعطائه لقب القديس هو اهتمامه الفائق بالفقراء، وكان ذلك هو الحال الذي عرف به الرئيس المنتخب من كرادلة العالم الكاثوليكي. العملية نفسها للانتخاب وما بعده، جاءت في ظروف استثنائية، فلم يحدث من 600 عام أن استقال رأس الكنيسة كما لو كان رئيسا لمجلس محلي في إحدى المدن، ولكن بنديكتوس السادس عشر - في ما أظن - سئم المنصب، وربما الرسالة نفسها، وكانت لديه الشجاعة ليعلن أن الأمر يحتاج لجيل آخر. ولكن هذا الظرف، وما ترتب عليه، حمل الكثير من مآزق الكنيسة الكاثوليكية نفسها، بالإضافة إلى تلك المواجهة التاريخية بين الدين والعالم، حينما بصبح الأول مواجها بضرورة التكيف مع واقع جديد وسريع، ولكن ثمن التكيف ربما يكون الخلاص من جوهر الفكرة الدينية ذاتها. هنا، فإن رد الفعل الطبيعي يكون العودة إلى الأصول، والتقاليد، وإلى حقيقة الحاجة الإنسانية إلى «الإيمان» بالله الذي يعطي للعالم غير المحسوس معنى، ولمستقبل ما بعد الحياة تصورا ما، يجعل الحياة نفسها مقبولة. مثل ذلك وحده، هو الذي يفسر بقاء مؤسسة مثل الكنيسة الكاثوليكية وحصولها على الولاء من قرابة مليار نسمة يرتبطون بها ويعيشون في حياتهم الخاصة على ما تبثه من تعاليم. وأذكر أنه في ظل اعتبار دولة الفاتيكان من الدول «الصغيرة» أو الافتراضية، أن السفراء المصريين لدى دولة الفاتيكان شاع بينهم القول إنهم سفراء لدى «العالم الكاثوليكي»، للتأكيد على أهمية دورهم والمكانة التي يتمتعون بها. وبمنظور تاريخي، عاشت الديانة المسيحية رغم انهيار الإمبراطورية الرومانية، وظهور حركات الإصلاح الديني والتحدي البروتستانتي، ثم ظهور الدولة القومية والحروب العالمية الساخنة والباردة، وانكماش النطاق الجغرافي للكنيسة الكاثوليكية حتى انحسر في مساحة ضيقة من مدينة كبرى وهي دولة الفاتيكان، وحتى عندما كان على الكنيسة أن تدفع ثمن عدائها للعلم - كما فعلت مع جاليليو، فإنها في النهاية لم يكن بوسعها إلا أن تعتذر، وتعتبر أن العلم هو أيضا من صناعة الخالق ومنطقه في خلق الكون والأكوان.

الصحافة العالمية والإعلام، لم يتوانيا عن وضع الأجندة العالمية أمام «البابا» الجديد، وبات عليه أن يقرر ماذا يفعل بتنصيب النساء قساوسة، وزواج المثليين، والتعامل مع تاريخ لم يكن فيه ممكنا تجنب التعايش مع أشكال مختلفة من القهر، بعضها جرى في أوروبا، وبعضها الآخر جرى في أميركا اللاتينية. هذه القصة كلها، من أولها إلى آخرها، ربما تواجه كل الديانات، وبالنسبة لنا لم تكن هناك صدفة أنه بعد سقوط الخلافة الإسلامية بأربع سنوات ظهرت حركة الإخوان المسلمين وحركات إسلامية أخرى، بامتداد العالم الإسلامي كله شرقا وغربا، لكي تؤكد أن الرابطة الروحية لا تزال هي الأقوى وفوق كل الروابط الأخرى، القومية أو الوطنية. وربما شكل ذلك فارقا بين المسلمين والمسيحيين، فبينما لا يزال الأولون فيهم من يرى ضرورة وحتمية استعادة دولة الخلافة، فإن فكرة عودة الإمبراطورية الرومانية المقدسة فكرة مستحيلة ولا تجد من ينادي بها، حتى ولو عبر قادة عنها بطريقة مختلفة حينما يصفون الاتحاد الأوروبي بأنه ناد للدول المسيحية. ورغم أن هذا الموقف استخدم من أجل استبعاد تركيا، فإنه يقر بوحدة الكثير من المذاهب المسيحية التي تنتشر بين الدول الأعضاء.

يبقى في كل الأحوال أن الدين وهو يواجه «العولمة» الحداثية، بدلا من العولمة الدينية، يحاول الظهور في أشكال إنسانية، بعضها يعود إلى تقاليد الدفاع عن الفقراء والمحرومين والإغاثة، أو التقاليد الخاصة برموز الكنيسة والتنصيب التي تم تناقلها عبر أجيال وعصور. ولكن المواجهة في الإسلام أخذت أشكالا مختلفة، فالمعتدلون ركزوا على فكرة عدم التناقض بين الدين والعلم والحداثة، بل إن صيحة كبرى جرت في صفوف جماعات دينية بأن دولة المسلمين هي في جوهرها دولة مدنية، فإن الواقع الفعلي أبرز، ليس سيادة المعرفة بشؤون الدنيا في تقرير الأمور الدنيوية، وإنما النص الحرفي الديني وتفسيراته المنتمية إلى عصور قديمة. الأخطر من ذلك، أن كان المحاولات العنيفة والقسرية لوقف حركة التاريخ كلية، والعودة إلى عصور سابقة بشكل قسري وعنيف، تستخدم فيه القوة المسلحة والإجبار والاضطهاد للمرأة والأقليات الدينية لكي يبقى التاريخ على حاله أو يعود القهقرى إلى الوراء. وفي تجارب السودان وأفغانستان وإيران والصومال الكثير، مما يشير إلى أن عودة التاريخ القديم على قسوته في العصر الحديث، كان أكثر سهولة من قبول التحدي العظيم للتعامل مع العصر والبقاء فيه في آن واحد.