المجتمع المدني وتعزيز الهوية الوطنية

TT

الدول المتحضرة والساعية للتحضر والتقدم، هي تلك الدول والمجتمعات التي تسعى لصناعة مجتمع مدني متجانس لا فرق فيه بين هذا وذاك على أسس عرقية أو جهوية أو عشائرية. ورغم أن بعض علماء الاجتماع يعتبر المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص مجتمعا قبليا، فإن الواقع يؤكد أن مقومات بناء مجتمع مدني راق جدا متوفرة في البيئة الاجتماعية في العراق أكثر مما هي متوفرة في بلدان عربية أخرى بحكم أن المجتمع المدني العراقي له جذور تاريخية قوية تمتد لبداية تكوين الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي.

وقد يقول البعض إن بدايات بناء المجتمع المدني العراقي تبلورت أكثر بعد زوال النظام الشمولي عام 2003 وحالة التغيير الكبيرة التي حدثت في البلد، وهذا الرأي مقبول فيما لو تم بناء المجتمع العراقي من قبل القوى السياسية في البلد على أسس صحيحة غير متشعبة وحاملة للهويات الفرعية والتي لا يمكن إدراك مخاطرها إلا من خلال رؤيتنا لما ستؤول إليه مسارات الأمور في المستقبل القريب، ويمكن لنا أن نشخص بوادر خنق المجتمع المدني العراقي وفعالياته بشكل كبير من خلال تركيز الكثير من القادة السياسيين في البلد على تهميش دور المجتمع المدني والتركيز على الهويات الثانوية والفرعية على غرار ما تم طرحه من فكرة تكوين أقاليم على أساس طائفي.

لهذا فإن التركيز على الهويات الثانوية والفرعية لن يقودنا لبناء دولة متكاملة بقدر ما يجعلنا نسعى لصناعة كانتونات لكل مكون من مكونات المجتمع العراقي وبالتالي نجد أنفسنا جزءا من مشروع يقودنا لنهايات غير مرغوب فيها ويجعل من البلد ساحة مفتوحة لصراعات غير محسوبة العواقب.

وهذه الأجواء لن تستطيع صناعة الديمقراطية التي ننشدها، ولا يمكن لها - في نفس الوقت - أن تكون مرآة عاكسة للمجتمع العراقي، بقدر ما تكون منحازة أكثر لعنوانها الفرعي الذي قامت لأجله.

وقد يقول البعض بأن التخندق الطائفي في عامي 2006 و2007 وما بعدهما قد جعل البعض يرتكز على عناوين أخرى، وأولها القبيلة أو العشيرة، وقد تكون هذه العناوين أخف من الطائفية المقيتة لكنها بكل تأكيد وجه آخر لإذابة هيبة الدولة، هذه الهيبة التي لا يمكن أن تظهر وتتكون وتأخذ أبعادها ومدياتها دون تفعيل المواطنة والابتعاد عن كل ما يقلل من فرص ترسيخها، إذ أن وجود مجتمع مدني فعال غير مسيس لجهة ما، يعني وجود دولة حقيقية شاملة للمكونات كافة دون تمييز لأنها ستعتمد معايير المواطنة الصحيحة والتي سيكون أول مخرجاتها مجتمعا فعالا وصحيحا يعرف واجباته ويدرك حقوقه ويراقب بعين المواطنة لا بعيون ثانوية.

وإذا نجحنا في تفكيك عرى الطائفية ورفض مفاهيمها وممارساتها من أجل أن نتجاوز عقدها، علينا اليوم وخاصة السياسيين أن يتجاوزوا الهويات الثانوية في عملهم ويقتربوا أكثر من طموحات الشعب العراقي الذي لا يمكن له أن يظل يتنقل بين الهويات الفرعية وحسب ما تقتضيه مصالح القوى السياسية التي - على ما يبدو - أنها تتحرك وفق مصالحها الضيقة والتي تتقاطع بالتأكيد مع مصلحة الشعب العراقي، ناهيك عن أن السعي لتعزيز الهوية الوطنية المشتركة لأبناء الشعب العراقي يؤكد صمام الأمان لترسيخ الديمقراطية.