عشر سنوات على حرب العراق

TT

تجددت الجدالات السياسية والاستراتيجية في أوروبا والولايات المتحدة بشأن الحرب الأميركية - البريطانية على نظام صدام حسين والعراق. والمناسبة هي مرور عشر سنوات تماما على بدء الغارات على بغداد في ليل 2003/3/19. وقد كان معلقان سياسيان يتجادلان على إحدى الفضائيات ببريطانيا قبل أيام، فقال أحدهما، وهو معارض لمشاركة توني بلير وحكومته في تلك الحرب: «إن الحرب على العراق غيرت الإقليم»، فأجابه الآخر الذي كان مؤيدا للحرب، وإن لم يعد اليوم كذلك: «لكن إغارة (القاعدة) على الولايات المتحدة غيرت العالم»!

هكذا فإن الجدالات الغربية بعد عشر سنوات من حرب العراق لا تربط بين الحربين (على «القاعدة» وعلى العراق) من الناحية العملية فقط؛ بل ومن الناحية الاستراتيجية والسياسية إذا صح التعبير. وقد كان الواضح قبل وقوع الحربين أن إدارة بوش الابن ومحافظيها الجدد كانت تبحث عن أرض لتخوض عليها معركة لتأكيد الهيبة والهيمنة من جهة، واختبار الآثار وردود الفعل على العرب والمسلمين والعالم في ظل الأوحدية القطبية من جهة أخرى. ونعرف الآن أن القوة الأميركية ما كانت وحيدة في هذا التفكير. فأسامة بن لادن كان يريد أيضا تحدي الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق عن طريق الإغارة عليها في عقر دارها. وقد ذكر بوب وورد، في كتابه عن حروب بوش، أن وولفويتز الشهير كان رأيه أن «العراق ساحة مثالية لإرساء المثال والنموذج الذي أراد المحافظون الجدد اشتراعه وليس أفغانستان. فطالبان و(القاعدة) عندها والوضع في أفغانستان؛ كلُّ ذلك يشكل تهديدا أمنيا وليس استراتيجيا. وستكون الحرب ضد صدام مفيدة أكثر لعدة جهات: فالعراق منبوذ عربيا ودوليا، والحصار قد فكك أَوصاله وأضعف قواه، والحرب بجوار إيران تلقنها درسا لن تنساه، والنظام السوري سوف يخاف خوفا شديدا ويغير سياساته، والدول العربية المترددة في (الإصلاح) سوف تسارع إليه تحت وطأة الخوف من ديمقراطية الأميركان ذات الأنياب، والخوف من جهة أخرى من (الشعوب) التي سيشجعها سقوط صدام على رفع سقف مطالبها بالديمقراطية.. ومن وراء هذا وذاك وذلك سيعرف الروس والصينيون والأوروبيون أن الولايات المتحدة عندها استراتيجية جديدة للحفاظ على مصالحها من جهة، ومعاقبة الدول المارقة والفاشلة. وما صُرف النظر عن هذا الأمر بوقوع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001؛ بل الأَحرى القول إن المسوغات زادت وفي طليعتها الحذر من استضعاف الولايات المتحدة عالميا بعد أن هوجمت في عقر دارها»!

هذه هي كل الاعتبارات تقريبا، والتي كانت وراء غزو العراق. وليس من بينها بالطبع الخوف من النووي العراقي، أو الخوف من تعاون العراق مع الإرهاب، أو إرادة بناء نموذج ديمقراطي في العراق! ولا حاجة بالطبع لذكر تفاصيل الحرب، وبدايات العهد الجديد بعد سقوط النظام، لكن كيف كان الأميركيون يفكرون في إدارة العراق «تحت الاحتلال»؟ وهل توقعوا النتائج الاستراتيجية لسقوط النظام على الجوار العربي والإقليمي؟

هناك دلائل على أن الأميركيين فكروا في تسليم إدارة الدولة للمعارضة العراقية الكردية والشيعية، وإعانتها في الإدارة لحين كتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات «حرة». ويبدو أن التفكير بالصيغة الفيدرالية كان المقصود به بين العرب والأكراد، لأنّ الدولة الكردية المستقلة تتسبب في نزاعات حول النفط والحدود، وهواجس لدى إيران وتركيا. لكن «الشركاء» الشيعة والكرد أرادوا المزيد من الضمانات: تفكيك الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية. كما أن المعارضين الشيعة سعوا لاستحداث نوع من الطمأنينة بين الإيرانيين والأميركيين. وقد تم ذلك كله أو التخطيط له خلال عامين: عام قبل الغزو، وعام بعده. لكن كل ما تم كانت طريقة إنجازه في منتهى السوء، سواء لجهة تفكيك الدولة العراقية، أو لجهة إحلال الفريق الجديد محل الذي كان قائما. فبعد سقوط بغداد سيطرت الميليشيات القادمة من إيران، وبعض الذين أفادوا من حالة الفوضى خلال الأسابيع الأولى. وقد أفاد الأكراد من حسن تنظيمهم النسبي والسابق على الغزو، واستطاعوا مد نفوذهم إلى كركوك والموصل وكل الإقليم الذي أرادوه حدودا لدولتهم؛ في حين صاروا القوة الأمنية الأكثر «موثوقية» في بغداد. وعندما اشتدّ الروع بين 2003 و2004، ما وجد الأميركيون ومستشاروهم غير النموذج اللبناني للمحاصصة، والذي بدا وقتها حلا مثاليا، لأن الأميركيين (وتبعا لمستشاريهم من العراقيين) وحدوا بين السُنة ونظام صدام، وما فكروا في غير الشيعة والأكراد طرفين في العهد الجديد، أما «الأقليات» الأخرى مثل السنة والمسيحيين والتركمان - وهم بحسب الإحصائيات الأميركية لا يشكّلون أكثر من 15 إلى 20 % من سكّان العراق - فسيتمتعون في ما بعد بحقوق الأقليات العِرْقية والدينية! ولذا بدا النموذج الطائفي اللبناني (الذي يحضُر فيه الجميع بغض النظر عن أعدادهم) موديلا «عقلانيا» مقبولا أو أفضل من حالة الفلتان والسلب والنهب والمصادرة والقتل السائدة لنحو عامين في أكثر أنحاء العراق العربي.

والواقع أن واقع «المحاصصة» هذا جرى تقنينه بعد مجلس الحكم، وبقيت ثلاثة أمور: الأمر الواقع الذي ساد في العامين الأولين وهو تغول صار واقعا ثابتا ليس بين الشيعة والسنة، بل وبين الأطراف الشيعية المشاركة في النظام السياسي. والأمر الثاني ما نص عليه الدستور والقوانين من إجراءات ضد السنة عمليا من خلال شيئين: قانون المساءلة والعدالة (لتصفية عهد صدام حسين ومواريثه)، وقانون الإرهاب (2005 - 2007)، وكل المتهمين فيه سنيون تقريبا. والأمر الثالث إنشاء الجيش الجديد ونسبة الشيعة فيه 75 % أفرادا وضباطا، وإنشاء الشرطة والأجهزة الأمنية ونسبة الشيعة فيها فوق 80 % وهي مخترقة من عدة ميليشيات، وإدارات الدولة الوسطى والكبرى ونسبة الشيعة فيها 70 %. وهذه الأمور كلها هي التي يطالب المتظاهرون في عدة محافظات بتصحيحها أو تعديلها أو إلغائها عدالة وإنصافا، ومن ضمن ذلك التعداد السكاني والأوضاع المدنية وقوانين الانتخابات النيابية ومجالس المحافظات.. إلخ.

في المرحلة الثانية لغزو العراق (بعد عام 2005) برز تحديان للاحتلال الأميركي: التحدي السني الذي برز في صورة ثوران هائج له حواش دموية بسبب حروب الزرقاوي المفزعة - والتحدي الإيراني الذي ظهر قويا لجهتين: لجهة وقوفه وراء وفي أوساط كل الفرقاء الشيعة، ولجهة وجود جحفل عسكري مستقل له على حدود العراق وفيه بقيادة الجنرال سليماني. وبسبب عقدة «القاعدة» لدى الولايات المتحدة من جهة، واعتقادها ضعف السنة وقلة عددهم في العراق؛ فإن الأميركيين انصرفوا طوال عامين لإخماد «التمرد السني»، مما زاد من قوة الميليشيات الشيعية التي جرى غض النظر عنها باستثناء ميليشيا «جيش المهدي» التابعة لمقتدى الصدر. وقد عدل «التمرد السني» من موازين القوى بعض الشيء، لكن الغلبة الاستراتيجية ظلت لإيران وفريقها في السلطة ببغداد. وعندما كان الأميركيون يستعدون للخروج (2009 - 2010) بحسب وعد أوباما في الانتخابات، عقدوا صفقة مع إيران على العراق وسوريا ولبنان، مقابل: الخروج الآمن، والتهدئة في النووي، وعدم التحرش بإسرائيل! وقد تخرب هذا «الاتفاق» بالثورة السورية، وبتفاقم الملف النووي، واضطراب السنة في العراق. وقد ردت إيران باعتبار «محور الممانعة» واجدا فيما بين إيران وبغداد ودمشق وبيروت. وأعلنت عن إرادتها القتال في كل الساحات، ولا تزال على ذلك.

إن الغزو الأميركي للعراق أضعف الأطراف العربية في منطقة الهلال الخصيب وجوارها أكثر، وقوّى اختلال التوازن و«الفراغ» الذي يتنازع عليه الإيرانيون والإسرائيليون والأتراك. ولا يزال الأمل في التصحيح والتعديل قائما من خلال «اليقظة» في العراق، والثورة في سوريا.