خرجت أميركا من العراق من دون أثر كبير ووصل رجل قوي للسلطة

TT

يتحدث قليل من الناس في الوقت الراهن بإيجابية عن حرب العراق، معترفين بالتأييد الذي أعطوه لهذه الحملة الأميركية في العالم العربي. ولكن، عملية تحرير العراق، التي تحل ذكرى مرور عشر سنوات على انطلاقها هذا الأسبوع، كانت تحظى بتأييد واسع. لقد شنت أميركا ضربات ضد أفغانستان في 2001 بهدف الحاق الهزيمة بـ«القاعدة» ومضيفيها إرهابيي طالبان، ولكن قتلة أحداث 11-9 الذين جاءوا بالهلاك على الأرض الأميركية ما كانوا من الأفغان، بل كانوا شبابا عربيا تشكل في بوتقة المجتمع العربي. أعطاهم وعاظ عرب الوسائل والمبررات لارتكاب جرائمهم المروعة.

كانت حملة أميركا السابقة في العراق، قبل عشر سنوات، تمثل بارقة أمل. لقد طرد ديكتاتور العراق من الكويت، لكنه نجا حينها. وكانت آلة صدام العسكرية قد وهنت وتآكلت بحلول عام 2003، لكنه ظل يختال ويدعي أمام العالم أنه يملك ترسانة قاتلة من أسلحة الدمار الشامل.

كان المخلّص العربي، كما كان يطلق على نفسه، يفتقر إلى الدهاء الكافي لإنقاذ نفسه. وفي الوقت الذي جرت عمليات إعداد حملة عسكرية كبرى ضده في لندن وواشنطن، كان صدام يراهن حتى النهاية على أن جورج بوش الابن لن يضغط على الزناد.

عشية عملية تحرير العراق عندما سقطت أول قنبلة في 19 مارس (آذار)، كان 70% من الشعب الأميركي يؤيد الإطاحة بنظام صدام.

قد يكون من المريح أن ننسب الحرب إلى جورج بوش الابن وديك تشيني، ولكن ذلك خاطئ تماما، فقد شنت هذه الحرب بتفويض من «الكونغرس»، ووسط قبول شعبي، وفي ظل عقوبات فرضتها أكثر من عشرة قرارات من مجلس الأمن في الأمم المتحدة تدعو إلى نزع السلاح عن العراق.

قد يخرج من لا يعرفون جيدا عن أوضاع هذه المنطقة ليؤكدوا عدم وجود روابط عملية بين حاكم العراق و«القاعدة». كما سوف يصر هؤلاء النقاد الجدد على وجود فرق بين الإرهاب العلماني والإرهاب الديني... ولكنه فرق من دون اختلاف.

تعرضت مبررات الحرب لضربة مهلكة في خريف عام 2004، عندما أصدر الأميركي تشارلز دويلفر، كبير مفتشي الأسلحة في العراق، تقريرا نهائيا يؤكد فيه أن صدام لم يكن يمتلك أي مخزون من أسلحة الدمار الشامل. حينها، أصبحت الحرب بلا تأييد ولا سيما بعدما قال كثيرون من مؤيديها السابقين إن ذلك ليس ما وافقوا عليه. ولكن «مهندس» الحرب لم يتوقفوا عند هذه النقطة، بل صمدوا وقدموا هدفا جديدا: إصلاح العراق وتحريره، وتقديم نموذج مقبول للعراق في قلب العالم العربي.

كان هناك عدد قليل من المقتنعين بالأسباب الجديدة. وفي تحول هو الأغرب من نوعه، أصبح الليبراليون الأميركيون يسخرون من فكرة تحقيق الحرية في مكان عربي مسلم.

كذلك، لم يكن هناك من اقتنع، من بين المراقبين في المناطق المجاورة للعراق، بفكرة استقدام الحرية على يد القوة الأميركية. ففي شرق العراق، يوجد النظام الإيراني المستبد، المتحمس لإحباط وإفشال المشروع الأميركي، وفي الغرب توجد سوريا حيث نظام البعث الديكتاتوري لآل الأسد. ووراء ذلك، يوجد نظام السلطة العربي السني، الذي كره الولايات المتحدة لمنحها السلطة إلى الشيعة. طيلة ألف عام، لم يكن الشيعة العرب يحكمون، لكنهم الآن يتولون الحكم في بغداد... المدينة التي كانت عاصمة للخلافة الإسلامية.

تماسك جورج بوش الابن، الذي اتسم بالهدوء، وسط الاستياء الأميركي ووسط مقاومة المنطقة التي ازدادت في ظل فشل الحملة الأميركية. ومن ثم ضاعف عدد القوات بعملية «التعزيز»، وظل مؤمنا بفرضية أن الحرية قد ترسخت على أرض عربية.

لا توجد طريقة أخرى مقنعة يكتب بها تاريخ المنطقة من دون هذه الحرب.

يتسم هذا النوع من المحاولات بالتكهنات ويظل خاضعا للأهواء والتفضيلات. لعله كان في إمكاننا أن نترك صدام في السلطة، وأن نحتمل المعاناة التي ابتلي بها شعبه، ونقنع أنفسنا بأن العقوبات المفروضة على نظامه كافية لفرض العزلة عليه. ولكن كان هناك مسار آخر اختاره التاريخ، وأخرج به العراقيين من وطأة طغيان لم يكن في استطاعتهم الإطاحة به بمفردهم.

لقد ساعد الاستياء الأميركي من حرب العراق على صعود باراك أوباما إلى السلطة. وكانت هناك مكاسب استراتيجية حققتها الحرب في العراق، ولكن أوباما لم يعبأ بها. كانت حرب العراق «اختيارية» يجب أن تصل إلى «نهاية مسؤولة»، على حد قوله. وبدلا منها يجب أن ينصب التركيز على «الحرب الضرورية» في أفغانستان.

قدم أوباما السياسي الماهر عرضا إلى اركان الحكومة العراقية، كان المقصود منه أن يرفضوه - وهو بقاء قوات أميركية تستطيع بالكاد الدفاع عن ذاتها، ناهيك بتوفير حماية كبيرة للنظام الجديد الناشئ في بغداد. وكما كان متوقعا، قرر حكام العراق الاعتماد على انفسهم مع اقتراب نهاية عام 2011.

كانوا يشقون طريقا صعبا بين إيران والولايات المتحدة. ولكن الخيار أصبح سهلا بالنسبة لهم، حيث يجاورهم المرشد الأعلى، بينما تنسحب القوى العظمى الليبرالية.

وأثناء عملية الخروج، أثنى أوباما على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، واصفا إياه بـ«القائد المنتخب لدولة العراق المستقلة الديمقراطية ذات السيادة». وجاء هذا الثناء رغم شروع المالكي في إقامة ديكتاتورية تقوم على تهميش الأكراد والعرب السنة، وحتى اولئك الشيعة الذين يشككون في قراراته.

منذ أسبوعين، أصدر ستيوارت دابليو بوين الابن، المفتش العام لإعادة إعمار العراق، تقريره النهائي تحت عنوان «التعلم من درس العراق».

يتسم التقرير بالمنهجية والتفصيل، وتتخلله شهادات لمسؤولين أميركيين وعراقيين. قدمت شهادة أحد التكنوقراطيين العراقيين، القائم بأعمال وزير الداخلية، عدنان الأسدي، صورة مقنعة، حيث قال: «رغم كل الأموال التي أنفقتها الولايات المتحدة، يمكنك أن تذهب إلى أي مدينة في العراق ولن تجد مبنى أو مشروعا واحدا أقامته الحكومة الأميركية. يمكنك ركوب طائرة مروحية فوق بغداد أو مدن أخرى، ولن تتمكن من الإشارة إلى مشروع واحد أنشأته الولايات المتحدة وأتمت بناءه».

لم يكن الخطأ خطأ الجنود الذين قاتلوا في هذه الحرب أو القادة الذين شنوها، ولكن من خلفوهم ما كانوا يتحلون بالصبر للبقاء في العراق وتأمين المكاسب التي تحققت بتكاليف لا تحصى من دماء وأموال.

* كبير زملاء بمعهد هوفر في ستانفورد، أحدث مؤلفاته «التمرد السوري» (هوفر برس، 2012)

* باتفاق خاص مع «وول ستريت جورنال»