استغلال اليهود عبارة (أحفاد القردة).. في التخويف من الإسلام

TT

نستأنف اليوم الحديث عن (أسباب التخويف من الإسلام) فنقول: التخويف من الإسلام، أو من اتباع الحق، إذ الإسلام هو الحق عينه: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ».. هذا التخويف ظاهرة قديمة جدا، ظاهرة ابتدرها المعارضون للحق من تلقاء أنفسهم، أي من دون وجود خطايا اقترفها أتباع الحق فتسببوا - من ثم - في التخويف منه:

أ) «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ».

ب) «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ».

ج) «وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ».

د) وكان منطق مشركي مكة وهم يسوغون كفرهم بالإسلام: «وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا».

نعم.. هذه حقيقة أثبتها التاريخ الموثق. لكن هذا لا ينفي حقيقة أخرى، وهي أن هناك من أتباع الدين الحق من كان سببا - بفكره وسلوكه أو بهما معا - في التخويف من الإسلام. ولهذا - مثلا - كان صوت نبي الإسلام أعلى الأصوات بإطلاق في الدمدمة على الغلو، واستنكار سلوك الغلاة، ذلك أن الغلو سبب - بلا ريب - من أسباب التخويف من الإسلام.

في آخر المقال - في هذه القضية - عرضنا لما نسب لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عهد أو وثيقة فيها إهانة (منهجية) للتعامل مع أهل الكتاب.. وهي وثيقة من شأنها تخويف أهل الكتاب من الإسلام.. والحمد لله أنها وثيقة غير موثقة!!

في هذا المقال، نعرض لموضوع آخر، من الغريب أنه كاد يصبح (مسلمة) لدى كثير من المسلمين. فكثيرا ما نسمع لخطباء، ونقرأ لكتاب مسلمين بأن (اليهود) هم إخوة وأحفاد القردة.

وعند التحقيق تبين أن الموضوع ليس كما يتوهمه هؤلاء المرددون لتلك العبارة، وهي عبارة استندت إلى آية: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ»، فسارع أناس من المسلمين إلى أخذها على ظاهرها المحض، ومن ثم شاعت وراجت عبارة وصف اليهود بأنهم (أحفاد القردة) - طبعا ليس أخذا بمقولة داروين في هذا الشأن، إذ إن مقولة داروين تنتظم الجنس البشري كله، لا اليهود وحدهم، على أن مقولة داروين هذه ليست صحيحة عند التحقيق العلمي..

إذن، كيف يفهم النص القرآني الآنف على وجهه الصحيح؟ يفهم بأن (المسخ): معنوي لا بيولوجي، وهذا هو البرهان المبين:

1) في سورة (الجمعة): صورة مجازية قريبة من ذلك، وهي قول الله جل ثناؤه: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».. لنتصور حمارا يحمل مجموعة من الكتب المختارة في اللغة والعقيدة والفقه والطب والفيزياء، هل يفهم منها شيئا؟ لا.. قطعا.. ومن هنا، جاء التنفير من هذه الصورة، من خلال التحضيض على استعمال العقل والفكر في فهم ما يحمله الإنسان من معارف، فإذا استوعب وفهم وعقل وانتفع بالكتب فهو إنسان محترم، ومؤمن راشد، وإن لم يفعل، فليستعد لقبول الوصف الآخر من حيث إنه عطل أداة الفهم وهو (العقل) فصار حمارا.. على أن هذا التحذير المخيف موجه للمسلمين أيضا، ولا سيما أنه جاء بعد سياق امتداح الصحابة - ومن بعدهم - إلى يوم القيامة في فهم الرسالة التي جاء بها النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».. كأن السياق يقول للمسلمين: افهموا القرآن واعقلوه ولا تكونوا مثل أقوام: حملوا التوراة ثم لم يحملوها - كما ينبغي - لتحجر في عقولهم، وخساسة في أرواحهم، فصاروا - من ثم - مثل الحمير التي تحمل كتبا لا تعلم ما فيها!!

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

2) قال الإمام الفخر الرازي في «مفاتيح الغيب»: «المروي عن مجاهد أنه - سبحانه وتعالى - مسخ قلوبهم، لا أن مسخ صورهم».

3) وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»: «وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة».. وقال القرطبي كذلك عن قصة رجم قردة في الجاهلية!!: «وأما القصة بطولها، فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم بن عيسى ابن حطان، وليسا مما يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر».

4) وقال ابن كثير في التفسير: «عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).. وهذا سند جيد عن مجاهد».

5) وقال ابن عاشور في تفسيره: «ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها، وأخذوا بصورة الألفاظ، فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات، فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني. وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه. وهذا معنى قول مجاهد: هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.. ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا - أو كادوا - على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يتناسل، وروي ذلك عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم أنه قال: (لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا) وهو صريح في الباب».

6) والحجة القاطعة الساطعة الجامعة المانعة على أن المسخ (معنوي)، وأنه يمكن أن يقع للمسلمين أنفسهم.. الحجة القاطعة – ها هنا - هي حديث صحيح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويفيد هذا الحديث بأن قوما من المسلمين سيمسخون قردة وخنازير، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أنس، إن الناس يمصرون أمصارا، وإن مصرا منها تسمى البصرة، فإن أنت مررت بها ودخلتها فإياك وسباخها وكلاءها وسوقها وباب أمرائها، وعليك بضواحيها فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف، وقوم يتبيتون فيصبحون قردة وخنازير»..

فإذا فسر هذا المسخ بأنه مسخ حقيقي في الصورة والتركيب والانقلاب البيولوجي، فمعنى ذلك أن قوما من المسلمين سيصبحون - في يوم ما - قردة وخنازير، وهو تفسير مماثل - كما ورد في تراثنا - لمسخ اليهود قردة وخنازير.. وإن كان التفسير أن المسخ (معنوي) - في الحالتين - فليكف مسلمون عن وصف اليهود بأنهم (أحفاد) القردة. فهذه مادة تستغلها الصهيونية في التخويف العالمي من الإسلام. ولا يجوز الخلط بين ظلم اليهود لأهل فلسطين وهذه الصفة:

أولا: لأن من المسلمين من يظلم أيضا دون أن يكون قردا أو خنزيرا. فصدام حسين ظلت صورته إنسانية كما هي حتى مات، ومع ذلك أنزل من الظلم بشعبه وبأهل الكويت ما أنزل. ومن هنا، وقفنا ضده دون أن نصفه بأنه قرد أو نرميه بالكفر.

ثانيا: يتوجب نقض باطل اليهود وظلمهم ودفعه بكل وسيلة مشروعة، بيد أن هذا الواجب يمكن القيام به بعيدا عن وصفهم بأحفاد القردة، فهو وصف لا يخدم قضية، ولا يحرر أرضا.

وحين يمتلك المرء دلائل وبراهين الحق في الدفاع عن الحق، فلا داعي للزج بالشتائم في هذا السياق.