«لا»

TT

«أربع صحف في مواجهتي أكثر خطورة من ألف حربة»، عبارة لنابليون بونابرت أثناء حروبه الإمبراطورية التوسعية في بداية القرن التاسع عشر، بينما كانت الصحافة في بريطانيا الأكثر استنارة وحرية في العالم، تقود الدعوة إلى الدفاع عن الحريات وتحث على إيقاف الزحف البونابرتي.

ولأنهم النخبة بين قراء الصحف العربية، فقراؤنا ليسوا في حاجة إلى التذكير بقوة كلمة الحق في مواجهة سيوف أقوى الجيوش.

حروب نابليون كانت سببا مباشرا في الوجود الرسمي الدائم للصحافيين في برلمان وستمنستر كعيون الناخبين على أداء نوابهم.

مايو (أيار) 1803 ورئيس الوزراء ويليام بيت الأصغر يقدم تقريره للنواب عن الحروب النابليونية، ودفع ازدحام العامة الصحافيين خارج مقاعدهم المعتادة في مجلس العموم.

فانتخب الصحافيون لجنة إدارية (تنتخب سنويا وكاتبكم عضو فيها منذ عشر سنوات) تمثلهم لبحث الأمر مع تشارلز آبوت رئيس المجلس (ترجمة غير دقيقة لإنجليزية speaker) وهو أعلى سلطة ديمقراطية في البرلمان، فقرر، بمرسوم برلماني صدق عليه الملك، توفير الجانب الشرقي من المنصة (فوق مقعد الرئيس ومنضدة الصولجان وصندوق الخطابة) خصيصا للصحافة ومكاتب دائمة في الجناح نفسه.

كان النواب يلتقون في جلسات مغلقة تبقى مناقشاتها سرية، فجعل الصحافيون كشفها همهم الأول منذ وجدوا (تحت اسم الكتبة والناشرين والطباعين) في برلمان وستمنستر منذ القرن السادس عشر. مجلدات مكتبة المنصة الصحافية سجلت عام 1641، وقت صراع الملك تشارلز الأول مع إصلاحيين راديكاليين، كيف قام حاجب البرلمان (الاسم بالإنجليزية hangman حارس المشنقة) بحجب معلومات عن الصحافة بحرقه كل نسخ خطبة أعدها اللورد جون ديجبي (انقلب ضد تشارلز الأول بعد تراجع الأخير عن وعوده بالتنازل عن صلاحيات التشريع للبرلمان) مطالبا التاج باحترام البرلمان. وبعد عامين صدر أمر ترخيص المطبوعات (تحول إلى قانون عام 1662 بمنع أي مطبوعة بلا ترخيص) مما دفع الكتاب والطباعين (الصحافيين) للتفنن في الحصول على المعلومات، بمساعدة نواب إصلاحيين ونشرها للشعب. وكثيرا ما دفع الصحافيون الثمن من حريتهم مستمرين في لعبة الاستغماية، بينما يشهر حراس وستمنستر السلاح في وجوههم لمنعهم من نشر أسرار الساسة.

وبعد خمود ثورة أوليفر كرومويل، وعودة الملكية مع تشارلز الثاني من فرنسا في ستينات القرن الـ 17 وتصاعد المطالب الديمقراطية صوّت البرلمان بإلغاء قانون تراخيص المطبوعات في 1693 لتصبح بريطانيا مهد أول صحافة حرة تصدر بلا تراخيص.

المواجهات بين الصحافيين والمسؤولين الأوتوقراطيين محبي السرية وصلت ذروتها عام 1771 عندما أشهر حراس البرلمان السيوف ليسوقوا الكتاب والطباعين إلى منضدة الصولجان أمام كرسي الرئيس، للاعتذار عما نشروه من «إهانات وسخرية بالبرلمان وساسته»، فرفض غالبية الصحافيين الاعتذار وأيدهم بعض نواب يقدسون حرية التعبير واستدعوا الجماهير متظاهرة تأييدا للصحافيين. ومع إصرار الصحافيين وتفننهم في نشر محاضر الجلسات في العقدين التاليين «زهق» المسؤولون، فغضوا النظر عن مراقبة الصحافيين، وإن استمر الحراس في مضايقتهم بإيعاز من ساسة يعادون حرية التعبير والنشر.

مقدمة تاريخية عن الثمن الذي دفعه حملة القلم كعيون الشعب في أم البرلمانات، حيث يكرر التاريخ نفسه اليوم باحتدام المعركة بين الساسة والصحافيين لتبلغ ذروتها هذا الأسبوع في اتفاق الأحزاب الدائمة الخصام على مشروعي قانونين، قضائي جنائي، وميثاق ملكي (صيغ بلغة القرون الوسطى) جوهرهما رقابة فعلية تعود بأم الصحافة الحرة ثلاثة قرون إلى الوراء.

فالمحصلة أن الصحف التي لا تدخل «طواعية» في «عضوية» الميثاق الملكي تحرم تلقائيا من مظلة الحماية التعويضية القانونية عندما تتعرض لمخالفات تصل غرامتها مع مصاريف المحاماة إلى الملايين، أي قبول الميثاق أو الإفلاس.

في اليوم التالي لتصويت النواب على مشاريع الرقابة، عقدت اللجنة البرلمانية للثقافة والرياضة والصحافة والفنون جلسة، (قررت مسبقا قبل مناقشة مشروع قانون الرقابة) لاستجواب مجموعة تسمي نفسها hacked - off (الفعل hack اختراق تليفون أو كومبيوتر عن بعد)، حول دوافعها ومصادر تمويلها بعد كشف تحقيقات صحافية مناقشتها أهدافا مناقضة للديمقراطية في اجتماعاتها السرية. المفارقة أن المجموعة وأبطالها مشاهير وأثرياء ونجوم هوليوود وتدعي أنها تمثل «ضحايا فضيحة التنصت على التليفونات» تطالب بالشفافية في علاقة الصحافي بمصادر أخباره، لكنها تبقي لقاءاتها سرية وترفض الإفصاح عن مصادر تمويلها.

وبدلا من استجواب ممثل المجموعة (ثري شهير صاحب سباقات السيارات) فوجئ الحضور بنائب عمالي من أعضاء اللجنة يشن هجوما على الصحافيين البرلمانيين (ولم يستطع أحدنا الرد لأن التقاليد لا تسمح بالسؤال، ولا يتحدث إلا من حدد رئيس اللجنة استجوابه مقدما) ويسميهم «عناصر طفيلية، تسيء الامتيازات البرلمانية، وتختبئ وراء أقلامها لتهين الساسة وتسخر منهم» (لاحظ تضمن العبارة اتهامات عام 1771) وطالب بمنع الصحافيين من البرلمان. كان اسم النائب ذكر في فضيحة التلاعب في المصاريف الإضافية للنواب، حيث أنفق أكثر من 1600 جنيه إسترليني (أكثر من ألفي دولار) من المال العام (مال دافع الضرائب) على شراء تلفزيون بلازما 42 بوصة وفراش عاجي لشقته في لندن.

الجدير بالذكر، أنه قبل نشر الـ«ديلي تلغراف» تفاصيل مصاريف النواب ومخالفتها للوائح (بعضهم قضى عقوبة السجن للتزوير والتلاعب في المال العام) حاولت إدارة البرلمان استصدار حكم قضائي بمنع نشر معلومات «من ممتلكات مسروقة» والمقصود ديسك الكومبيوتر المملوك للبرلمان الذي باعه حارس للصحيفة. لكن القاضي قبل مرافعة محامي الصحيفة بأن المصلحة العمومية في نشر المعلومات لها أسبقية في القانون العرفي على الملكية الخاصة لقرص المعلومات.

أما إذا تحول قرار النواب إلى قانون بميثاق ملكي «لتنظيم» عمل الصحافة البريطانية، فلن يملك القاضي إلا تطبيق القانون الصادر حرفيا، الذي سيحمي الخصوصية ويعيد القرص الممغنط إلى أصحابه الشرعيين ولا يحق للصحافيين الاطلاع على معلوماته، والمخالفة تعني غرامة قد تؤدي إلى إفلاس الصحيفة.

لا غرابة إذن أن البعض يريد طردنا، نحن «العناصر الطفيلية المختبئة وراء الأقلام الساخرة».

وإذا كان سابقونا قدموا التضحيات قبل 300 سنة كي يعرف الشعب الحقائق التي يحاول ساسته إخفاءها، فأكثر الصحافيين على استعداد للتضحية بحريته الشخصية دفاعا عن حرية القلم والميكروفون والكاميرا، فموقف السلطة الرابعة البريطانية اليوم عبر عنه زميلنا فريزر نلسون رئيس تحرير مجلة «الإسبكتاتور» العريقة في العدد الخاص بحرية الصحافة الصادر اليوم (السبت) ليرد غلافها على قانون رقابة الصحافة بحرفين عملاقين «لا».

تابعوا الكاتب على «تويتر»

@AdelDarwish