حديث العقل والوجدان في الرياض

TT

شاركت في فعاليات المعرض الدولي للكتاب في الرياض، في دورته الحالية. تلقيت من الوزير الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجه دعوة كريمة، وأفسح لي السادة القائمون على تنظيم الدورة مكانا واقترحوا عليّ أن يكون حديثي إسهاما في ندوة «العقل والوجدان في الفكر الإسلامي». والموضوع يثير في النفس أشجانا كثيرة مثلما أنه ينقلنا إلى جوف الثقافة العربية الإسلامية، والقول في ذلك، أو في البعض منه بالأحرى، بعض مما أريد أن أجعل منه حديثي اليوم. بيد أنني، قبل ذلك، أود أن أنقل إلى القارئ الكريم انطباعات هي بعض مما اعتمل في النفس، ومما أثاره فيَّ وجودي في المعرض الدولي للكتاب في الرياض. انطباعات شتى أجتهد في جمعها وتنظيمها في ملاحظات ثلاث.

الملاحظة الأولى هي الإقبال الكثيف على المعرض إقبالا إيجابيا؛ فالمواطنون لا يكتفون بالمرور السريع أمام الأجنحة والمعروضات، بل إنهم يسألون عن عناوين بعينها، ويتساءلون عما عساه يكون مفيدا في موضوعات بعينها. وما يستوجب الانتباه هو أن المواطنين يقبلون في أسرهم، وكل مكونات الأسرة ذات اهتمام، والطفل يحظى باهتمام ملحوظ من جهة أولى، كما أن أجنحة كتب الأطفال وما اتصل بعوالم الكومبيوتر متوفرة ومتنوعة.

الملاحظة الثانية نستمدها من انطباعات وتعليقات من سألتهم من الناشرين والمستخدمين في دور النشر. هنالك إجماع تام على أن معرض الرياض للكتاب هو الأول في ترتيب معارض الكتب السنوية في العالم العربي، من حيث الإقبال على اقتناء الكتب، وليس من الضروري من حيث القوة الشرائية: بمعنى أن توفر القوة الشرائية في مناطق من بلدان الخليج العربي لا يجعل الناشرين في حال الرضا، بل إن منهم، على العكس من ذلك، من يتذمر مشتكيا من التفاوت الكبير بين ما يبذله من جهد وإنفاق وما يسجله من حصيلة مالية. والحق أن من نوادر الدهر، فيما أفدت من التجارب، أن يعترف الناشر العربي بجودة الدخل ورواج البضاعة، غير أن الأمر بالنسبة لزائر معرض الرياض أعظم من أن يخفى؛ إذ المواطنون يتنقلون بين الأروقة بعربات صغيرة محملة بالكتب من مختلف الأصناف. هل هم يقرأون ما يقتنون أو البعض منه على الأقل؟ ما الشأن في استيعاب ما يقرأ؟ ذانك سؤالان آخران ربما كانا مضنيين، وربما كان المثقفون السعوديون لا يجنحون في هذا الباب إلى التفاؤل، غير أننا نشهد بما علمنا وما لمسنا وأفدنا من أحاديث الناشرين، وأيضا مما أذيع عن أرقام المبيعات (قرأت وأعدت قراءة رقم 11 مليون ريال سعودي من مبيعات أحد تلك الأيام).

أما الملاحظة الثالثة فهي الإقبال الكثيف للمرأة السعودية على معرض الرياض الدولي للكتاب، لا.. بل إن الكثيرين يتحدثون عن غزو نسائي لم يسبق له نظير، والصحف السعودية على اختلاف مشاربها، وكذا محطات التلفزيون، أفاضت في التنبيه إلى هذه الظاهرة. ومن جهتي، بحسباني زائرا للمعرض من جانب أول، واعتبارا لمشاركتي في إحدى الندوات التي نظمت في الفعاليات الثقافية للمعرض، وكذا حضوري مستمعا لبعض الجلسات، يحملني على القول بأن حضور المرأة السعودية أمر يستوجب الاحترام والتقدير، بل الإجلال والإكبار، مثلما أنه يسترعي الانتباه. والرأي عندي أن الأمر مؤشر إيجابي إلى حركية مباركة أخذت تباشيرها الإيجابية تبدو في الأفق. وغني عن البيان أنه لا نهضة ولا يقظة ممكنين في غياب المرأة، ثم إن هذا الانتشار والتوسع في مجال الحياة الجامعية في المملكة العربية السعودية لا يمكن إلا أن تكون عنه تجليات مماثلة ومطمئنة معا.

يصح القول إجمالا إن العقل والوجدان معا ينتشيان مما شاهدت وسمعت في المعرض الدولي للكتاب في الرياض، ثم إنني أعمم الحكم بعض الشيء فأقول إن ظاهرة المعرض الدولية للكتاب، مع كل السلبيات التي تحف بها، والمشاكل التنظيمية التي تغرق فيها أحيانا، هي من الأسباب التي تحمل على تحريك المياه الآسنة في الحياة الثقافية العربية، وأحسب أن في ذلك مجال فسيح لما لا يزال في إمكان الدولة في العالم العربي (وليس وزارات الثقافة بمفردها) أن تقوم به من أدوار إيجابية في هذا الزمن العربي العسير.

أما ما يستوجبه القول المختصر في شأن العقل والوجدان في الفكر الإسلامي والصلة بينهما، فلعلي أرجعها إلى نقطتين أساسيتين: أولاهما أن العقل، وقد تجاوزنا به المعنى اللغوي المباشر والإفادة المعتادة، يعني كيفيات النظر واختلاف أشكال تمثل العالم في زمن معلوم في نطاق إنتاج معرفي محدد - من ثم فنحن نتحدث، من جهة، عن العقل الإسلامي تمييزا له عن غيره من كيفيات تمثل العالم، ونقصد به، من جهة أخرى، ما كان متصلا بصنف من أصناف المعرفة وما يتصل بالصنف المعرفي من مناهج وقوانين متمايزة عن بعضها البعض (من ذلك مثلا العقل الفقهي، العقل الفلسفي، العقل الرياضي...). أما الوجدان (ويستوجب الأمر الانتباه في هذا الصدد إلى الحمولة الوجدانية أو العاطفية للكلمة العربية فهي مشتقة من الوجْد (بتسكين الجيم)، وهو حالة روحية، ومن الوجدان بمعنى ما أجده وأحصل عليه وأمتلكه). وأما العقل فهو يتصل وجوبا بما يستمد من الثقافات الأخرى المغايرة لما كان عند الذات: فكل من النحو العربي، والبلاغة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والفلسفة.. قد استمد واقتبس الكثير مما وجده عند اليونان خاصة، وفي المنطق الأرسطي بكيفية أخص، ثم إنه قام بعمل «التبيئة» مما أكسب العلم الطابع العربي الإسلامي الذي كان به تميز وأصالة كل علم من العلوم المشار إليها. وقد أوجز القول فأصدر حكما عاما فأقول: إن الثقافة العربية الإسلامية، في مراحل القوة والانبساط كما يقول ابن خلدون، كانت ثقافة إقبال على الآخر، واعتراف به، واقتباس مما هو عنده، ثم القيام بعملية استيعابه وصب في قوالب جديدة. وأما في مراحل الضعف والانحطاط، فقد كان الأمر انقباضا وامتناعا عن الحوار والأخذ، وعجزا عن الإبداع في صور جديدة مشرقة.