أوباما اليائس الحالم

TT

صادف أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تحلى بالشجاعة مرتين، وكلتاهما أتت عقب انتخابه رئيسا؛ المرة الأولى حينما خاطب العرب والمسلمين من جامعة القاهرة في صيف 2009، وقد أخذه الحماس، فوعد بأن ترسية السلام من خلال حل الدولتين هو هدف أولي لإدارته. والمرة الثانية قبل يومين في القدس، حيث خطب في 600 طالب اختيروا من جامعات وكليات إسرائيلية، قائلا لهم إن السلام ممكن، ولكنه ليس مضمونا.

بعد خطابه المتفائل الأول في جامعة القاهرة، التقى أوباما في قمة ثلاثية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة، وشعر بخيبة أمل حينما استمع إلى وجهة نظر متصلبة من كلا الجانبين، وفتور الرغبة في مفاوضات الحل النهائي، هذا الفتور لم ينتقل للرئيس الأميركي، الذي عاد وجمعهما في سبتمبر (أيلول) 2010 في البيت الأبيض مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في دفع رباعي لعملية السلام، بعد مشاورات مع العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي. أيضا فشلت هذه الجولة التي كانت آخر عهد أوباما بمحاولة جادة لحل الدولتين، قبل أن تحتجب شمس القضية خلف غيوم الثورات العربية. فماذا تغير منذ 4 أعوام وحتى لقاء أوباما بكل من الرئيسين في القدس ورام الله مؤخرا؟ على المستوى السياسي لا شيء، المواقف لم تبارح مكانها؛ عباس يصر على تعليق المفاوضات حتى يتوقف الاستيطان، ونتنياهو يدعي أن الفلسطينيين هم حجر العثرة، لأنهم يمتنعون عن التحاور معه، وحماس تستفز الإسرائيليين بصواريخ بلا أهداف، والجميع يلوم الرئيس الأميركي على إخفاقه في تحقيق السلام الموعود.

أوباما وسيط سلام، ولديه أوراق ضغط على كلا الطرفين، ولكنه لا يملك عصا سحرية لتغيير المشهد، إن كانت الأطراف المعنية غير مؤمنة بدرجة كافية بأن الدفع تجاه السلام ليس ضعفا، بل مبادرة تتطلب رجالا شجعانا.

ولأن الإدارة الأميركية لم ترَ أي تغيير في المواقف، ويبدو أن ذلك أثار شعورها بالارتياح، ولأهمية الزيارة للعلاقة الأميركية - الإسرائيلية، فقد اختار الضيف توجيه خطابه لشباب الجامعات بدلا من سياسيي الكنيست. قدم أوباما خطابا شعبويا، ليبرئ ذمته من ذنوب السياسيين الذين لم يتجاوبوا مع مساعيه للسلام.

السقف المرتفع لصراحة خطاب أوباما أسبغت عليه صفة التاريخي، من حيث إنه أسمع الإسرائيليين والفلسطينيين ما يود كل منهما سماعه ضد الطرف الآخر؛ فقد اعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ حماس، وحقها في أن تكون دولة لليهود تحظى باعتراف جيرانها، وتجرأ، وهو أمام الإسرائيليين، أن يذكّرهم بأن للفلسطينيين حقا في إنهاء الاحتلال والعيش بسلام في دولة مستقلة، وأن الاستيطان لن يجلب السلام للدولتين. كلمات شجاعة من رئيس لم يعد لديه ما يخسره وهو في ولايته الثانية، وستسجل له هذه الجرأة خطوة إلى الأمام.

تحدث أوباما بانفتاح وشفافية غير مسبوقة من أي رئيس أميركي؛ كان يوجه حديثه للشعوب كما لو كان في حملة انتخابية، والخطابات الشعبوية عادة ما تكون عاطفية تدغدغ المشاعر وتمتلئ بالتحفيز. قابل الطلبة الحاضرون كلمات أوباما بكثير من التفاعل الإيجابي، وهو ما كان معلوما من أن الشباب الإسرائيلي لديه رغبة في حل الدولتين أكثر من قادته السياسيين. الطلبة الذين كان منهم عرب ومسلمون تشاركوا في الهتاف لخطاب وافق رؤيتهم، استمعوا لما استحال عليهم أن يستمعوا له من ساستهم. الرئيس الأميركي في خطابه للطلبة كان أكثر قربا منهم وتفهما لرغباتهم، بل وزاد أن حمّلهم مسؤولية تحريك عملية السلام بالضغط على السياسيين. في الواقع، هذا ما حصل في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. المعتدلون أصبحوا رقما لا يستهان به، صحيح أن الحكومة الائتلافية لم تتغير كثيرا، فظلت حقائب مهمة، كالدفاع والخارجية والأمن والإسكان بيد اليمينيين، ولكنها تكفي كإشارة لنتنياهو والأحزاب اليمينية بأن الفئة الشبابية آتية بمزاج مختلف.

أما المتشددون من الطرفين، فقد صعقتهم صراحة الرئيس. حماس سارعت باتهام أوباما بتكريس الاحتلال، وأنه استبدل العدو الحقيقي؛ إسرائيل بإيران، التي لا تعتبر عدوا. واليمين المتطرف الإسرائيلي أغضبه وصف أوباما حال الفلسطينيين بالاحتلال، الكلمة التي رفضها وزير الاقتصاد والتجارة الإسرائيلي، ورد على الرئيس الأميركي بأنها أرض الإسرائيليين، ولا أحد يحتل أرضه.

نتنياهو ليس رجل سلام، ولن تتحرك عملية السلام في عهده، هذه حقيقة يفهمها باراك أوباما. الرجلان مختلفان في الهدف والوسيلة، حتى في حفل العشاء الذي أقامه الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، بحضور شخصيات يهودية، ومسلمة، ومسيحية، كان الخلاف وانعدام الود بين أوباما ونتنياهو واضحا، على الرغم من جهود الدبلوماسية والعلاقات العامة.

في رام الله، لم يكن الوضع أفضل كثيرا، لأن عباس ردد على مسامع أوباما الحديث نفسه: لا مفاوضات مع الاستيطان. من سوء الحال أن مجرد البدء بالتفاوض تحول إلى قضية بحد ذاته، وكأن الجلوس على طاولة الحوار عار أو تنازل، وكأن القيادة الفلسطينية وجدت في موضوع الاستيطان أداة لمعادلة شراسة نتنياهو، لتبدو أمام الرأي العام العالمي أنها ليست قيادة رخوة ولن ترضيها أي حلول.

بالنسبة للعرب الذين طالبهم أوباما بالاعتراف بإسرائيل، فقد توقف الزمن بهم عند تقديم مبادرة السلام العربية، أما الشعوب العربية، فلدى كثير منهم رغبة في السلام مع إسرائيل، لكنهم يخشون مجرد التفوه بهذه الرغبة، لأنهم لقنوا في المدارس والجامعات والإعلام أن حديث السلام خيانة للقضية، في حين أن الخيانة العظمى لقيمة الإنسان الفلسطيني هي المتاجرة بقضيته والتكسب من معاناته.

في النهاية، كانت زيارة الرئيس الأميركي اجتماعية، طمأنت الإسرائيليين أن علاقة الدولتين تاريخية واستراتيجية وليست شخصية، وأكدت للعرب أنهم قومية يحكمهم رد الفعل، لا الفعل.

[email protected]