من سفك دم البوطي؟

TT

المحيّر في مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، هو تحديد من قتله، أو من الجهة التي «يليق» بها أن تكون خلف مقتله.

البوطي هو «علامة الشام»، ورأس شيوخ الدين فيها، كره من كره وأحب من أحب، فالرجل بتاريخه المديد، وتنوع أدواته العلمية، جلس فوق قمة الهرم الديني والعلمي في سوريا، واختط لنفسه مكانة بارزة بين وجوه علماء أهل السنة من حماة التقاليد الأشعرية والمذهبية.

يضاف لهذا كونه قد طعن في السن (توفي عن 84 عاما)، وكون الاغتيال الانتحاري تم وهو يلقي درسه في المسجد، مما ضاعف من فداحة الانتهاك للقيم المصانة.

النظام بادر إلى اتهام خصومه بقتل الشيخ ومن معه، بسبب أن الشيخ البوطي كان رافضا للثورة السورية، أما أطراف الثورة السورية، فأعلنوا البراءة من ذلك، واتهموا النظام، الذي «لا يتورع» عن فعل شيء وفبركة أي شيء، بأنه خلف هذه الجريمة.

بشار الأسد استنكر بكلمات مباشرة منه اغتيال البوطي، وقال في بيان نشره المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية على صفحته على موقع «فيس بوك»: «قتلوك يا شيخنا لأنك رفعت الصوت في وجه فكرهم الظلامي التكفيري».

أما الجيش السوري الحر، فقد نفى أن يكون له يد في هذه المقتلة، وأصدر بيانا واضحا حول هذا الأمر، واستنكر قتل البوطي، وقالت مصادر له في اتصال مع قناة «العربية» إن التفجير جزء من مخطط يهدف إلى إفشال الثورة.

معاذ الخطيب قال حول اغتيال البوطي إنه «جريمة بكل المقاييس»، ورجح وقوف النظام وراء العملية.

الحق أن الأمر فيه قدر من الغموض، فسلوك أجهزة بشار الأسد الأمنية يساعد على اتهامها بالوقوف خلف عملية كهذه، فهي معتادة هذا، ثم تفبرك متهما وهميا، عادة يكون تنظيم القاعدة، كما جرى في فبركة المتهم «أبو عدس» في اغتيال رفيق الحريري.

وفي المقابل، فإن كراهية البوطي لدى الثوار، خصوصا أصحاب التوجه الديني «الجهادي»، واضحة.

بعض رموز التيار الديني أظهر «الفرح» بمقتل البوطي، وأصّل لذلك فقهيا، مثل محمد المنجد الشيخ السوري الموجود في السعودية، بل ووصل الحال برجل مثل محمد الشلبي، المكنى بـ«أبو سياف»، وهو قيادي أردني من قيادات التيار الجهادي، وله علاقة بجبهة النصرة في سوريا، أن يقول لوكالة «يونايتد برس إنترناشونال»: «إن جبهة النصرة لأهل الشام كانت تتمنى قتل عالم أمن الدولة السوري محمد البوطي، ولكننا ندين الطريقة التي قُتل فيها بداخل مسجد، والأبرياء الذين سقطوا جراء ذلك».

القرضاوي، واتحاد علماء المسلمين الذي يرأسه، والمنجد، والشلبي، كلهم وجهوا التهمة لنظام بشار في قتل البوطي ومن معه، من أجل التشويش على الثورة. وكلهم في الوقت نفسه، وبدرجات متفاوتة، أدانوا وقوف البوطي ضد إسقاط النظام.

المشكلة أنه «لائق» بتفكير كتفكير وسلوك النظام الأسدي أن يضحي ببعض من معه ويلفّق قصة ما حول هوية قاتله أو قصة مقتله من أجل مكاسب سياسية سريعة، وما مقتل اللواء غازي كنعان عنا ببعيد. كما أنه «لائق» بشباب «القاعدة» وأشباهها أن يفعلوها، وكلنا يذكر تخطيط «القاعدة» في السعودية لقتل بعض أئمة الحرم المكي.

من هنا، فالغموض - بالنسبة لي - ما زال قائما حول هوية الجهة القاتلة. حتى تتضح ملامح القصة الحقيقية، ويتبخر منها الضباب السياسي، نقف عند طرف من المغزى والمعنى في قتل الفقيه السياسي.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يُقتل فيها فقيه بسبب موقفه مع أو ضد السلطة؛ تاريخنا حافل بقصص كثيرة. من ذلك قصة الفقيه الشامي المصري، أبو بكر النابلسي، وهي باختصار، كما يذكرها مؤرخ الشام، ابن كثير، في كتابه «البداية والنهاية»، تمت في عهد المعزّ الفاطمي. يقول ابن كثير في ترجمة المعز، بعد أن هاجمه متهما إياه بالتظاهر بالعدل، وهو حسب وصفه «رافضي» عدو لعلماء السنة والجماعة: «أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين (أي الفاطميين) بسهم. فقال النابلسي: ما قلت هذا. فظن أنه رجع عن قوله، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولمَ؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا، ثم أمر بسلخه - وهو حي - وفي اليوم الثالث جيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات (رحمه الله)، فكان يقال له: الشهيد. وإليه يُنسب بنو الشهيد من نابلس إلى اليوم».

وكان الحشاشون، أتباع الحسن بن الصباح، وقد تفشّى نشاطهم في عهد صلاح الدين الأيوبي، يغتالون فقهاء بلاد الشام وقادة السلطة، في الوقت نفسه الذي كانت فيه إمارة الشام تواجه الخطر الأجنبي الصليبي.

كما قتل السلطات المتعاقبة، من المماليك إلى العثمانيين، علماء شيعة، بتهم سياسية متنوعة، مثل الملقبين بـ«الشهيد الأول»، و«الشهيد الثاني»، وهما من علماء جبل عامل في لبنان.

هو أمر له سند في التاريخ إذن، وصلة بالحاضر.

الشيخ البوطي كان، إضافة إلى علمه وفقهه وتصوفه وثقافته وجدله، فاعلا عضويا في عالم السياسة، وما أدراك ما عالم السياسة في بلاد الشام، خصوصا في عهد الأسدين!

البوطي فقيه يحمل إرث التقاليد المدرسية الشامية، القائمة على مزيج من التمذهب مع جوانب صوفية وكلامية، ولا غرو، فهو شارح «الحكم العطائية»، كما أنه قارع التيارات المادية الماركسية، ثم خاض معارك شهيرة مع نظيره السوري الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، داعية السلفية، فكان جدال الشيخ البوطي مع الألباني وتلاميذه من أصعب ما وُجّه للمدرسة الألبانية، إلى درجة أورثت معها حقدا دائما على البوطي، وكتب الرجل في هذا المجال كتاب «اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية»، وكتاب «السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي».

كما دخل الشيخ البوطي، في عقود سابقة، في سجالات فقهية مع الجماعات الدينية المسلحة، تحت عنوان «الجهاد»، وكان ذلك على خلفية مواجهات «الإخوان» مع نظام الأسد الأب، وألف في هذا الشأن كتابه الشهير «الجهاد في الإسلام» سنة 1993.

الشيخ البوطي المولود 1929 يمثل وزنا فقهيا ومعنويا كبيرا في بلاد الشام. والده الملا «الكردي» رمضان، هاجر به من قرية في جزيرة ابن عمر، أقصى المثلث السوري التركي العراقي، ونشأ الفتى في حارات الشام، ونهل من شيوخها. يمثل قيمة معنوية مهمة، من يحظى بها يملك قوة دفع كبرى في المجتمع السوري. لذلك حرص نظام الأسد على تقدير الشيخ، لأنه كان مساندا للنظام ضد خصومه الدينيين، وكل هذا ربما كان يمكن احتماله بالنسبة لمن يخالفون البوطي، ولكن هذه المرة كان رهان الشيخ البوطي على مساندة نظام بشار لآخر رمق، في غير محله. ولم يحسن الشيخ تقدير مآلات الثورة في سوريا، وكانت فاتورة الدماء التي يريقها النظام يوميا مما تضيق بها جبة الشيخ وعمامته، وتلاشى الباقي من رصيده المعنوي لدى كثير من السوريين بعد أن جاهر الشيخ بانحيازه للنظام، وتجاهل معاناة الآخرين.

أخطأت حسابات الشيخ السياسية، ولكن ظل، على الرغم من كل ما خدش به صورته المعنوية، محتفظا ببقايا هالته الدينية، خصوصا وهو شيخ طاعن في السن، فكان أن بادر بشار الأسد «شخصيا» لكتابة مرثية مؤثرة عن الشيخ، لعل وعسى أن يستعيد النظام شيئا من الشرعية الرمزية، باللواذ بعباءة الشيخ القتيل، ومحاولا أن يمسح بعمامة البوطي المغمسة بدمه، لطخات قواته وشبيحته على كل رموز وكنوز سوريا الدينية والإنسانية والتاريخية، من قلعة حلب إلى سوقها القديمة إلى أطفال درعا ونساء الحولة، إلى إجبار أفراد عصابته الناس على النطق بأنهم عبيد للإله بشار والإله ماهر.

الصراع على دم البوطي يعكس صراعا عميقا، عمق العاطفة وعمق الوجدان الديني في الناس. من هنا تأتي أهمية دم البوطي.

[email protected]