الشريدان

TT

أُبعد عبد الحميد البكوش عن رئاسة الوزارة الليبية بسبب ما دس عليه من أنه يقدم مصالح فرنسا، لكنه أُرسل سفيرا إلى باريس، التي كان أول ليبي يتخرج في جامعاتها، كما كان طه حسين أول مصري يحمل الدكتوراه من السوربون أوائل القرن. ليس في الآداب، وإنما في علم الاجتماع. وكان موضوع أطروحته معلمه وسلفه، ابن خلدون.

ذهبت إلى لقاء عبد الحميد البكوش في أحد مقاهي باريس، وسألته: كيف تمضي الوقت؟ قال إنه مكبّ على ترجمة ارثور رامبو! أخذتني الوهلة، لكنني أبقيتها لنفسي؛ فكيف يغامر ليبي محافظ في ترجمة الشاعر الفرنسي الملعون؟ سوف نعرف فيما بعد أن البكوش يخبئ في ذاته كاتبا وأديبا. وبعد سنوات من وفاته سوف أعرف أنه كان شاعرا. وبدل أن ينشر قصائده، كان يودعها صديقه الشيخ نهيان بن مبارك.

أقرأ الآن «رامبو وزمن القتلة» (دار «الجمل») للكاتب الأميركي هنري ميللر، ترجمة الشاعر العراقي سعدي يوسف. كبير مشردي الأدب الأميركي يرسم رؤيته لألمع مشردي الأدب الفرنسي. يا له من عالم مشحون بالحزن، صار بعد غياب أصحابه مصباح السعادة. كم حاول الفرنسيون تقليد رامبو، وكم حاول الأميركيون تقليد ميللر. وكم. ولكن رامبو هذا، الذي بدأ كتابة الشعر وهو في السادسة عشرة، ومات في السابعة والثلاثين، لن يقلده أحد. لقد زعزع الشعر الفرنسي، حتى قال عملاقه فيكتور هيغو بكثير من الدهشة والذهول: هذا مولود من رحم شكسبيري.

كلما دخلت إلى مكتبة فرنسية وجدت كتابا جديدا عن رامبو. ولا جديد سوى شعره. الباقي قصة مألوفة من التشرد والعذاب في بلدان الأرض، ومنها عدن وإثيوبيا والصومال، حيث تاجر بالبنّ والسلاح. ووسط مخاوفه وبؤسه وتنقله، تعلم العربية، وراح يعلمها إلى أولاد البلد، وخصوصا القرآن.

تاه رامبو في البحار، وتاه ميللر في الولايات «قاطعا آلاف وآلاف الأميال على معدة خاوية، باحثا دائما عن قروش قليلة لكسرة خبز، لعمل، لمكان استراحة»، ودائما كان يرى المطاعم من الخارج، ولا يعرف الدفء إلا في دور السينما «ذلك الدفء المشابه لدفء الرحم». هذان المشردان اللذان عملا أحيانا في حفر الطرقات، تركا مدرستين في الأدب الفرنسي والأميركي. كما غيَّر جبران خليل جبران في الأدب العربي، ومات دون الثانية والأربعين، وكما غيّر فرانز كافكا في الأدب الألماني، ومات في الأربعين، مات رامبو في السابعة والثلاثين، ولا يزال يغيّر في الشعر الفرنسي.