زيارة السيد الشاب!

TT

لا أدري لماذا كلما قام رئيس أميركي بزيارة إلى بلد أو منطقة ما انتابتني تلك الذكريات المرتبطة بمسرحية فريدريش دورينمات «الزيارة» التي صارت فيما بعد فيلما قامت ببطولته فيما أذكر إنغريد بيرغمان وعرض في دور العرض العربية تحت اسم «زيارة السيدة العجوز». القصة باتت معروفة في نهاية الخمسينات، أنها ليست حكاية سيدة عادت إلى قريتها طالبة القصاص ممن اغتصبها مستخدمة أموالها الطائلة لكي تحصل على حكم إعدامه بإجماع الشعب كله، وإنما هي حكاية أميركا التي عادت إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية محملة بالسلاح مرة، وأموال مشروع مارشال مرة أخرى، لكي يستعيد المهاجرون من القارة الأوروبية ما فقدوه قبل الرحيل إلى العالم الجديد. كانت المسرحية، ومن بعدها الفيلم، تعبيرا عن عالم انقلبت أوضاعه بعد الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب الباردة وسقوط الإمبراطوريات الاستعمارية لفرنسا وبريطانيا وغيرهما من القوى الأصغر.

جاءنا باراك حسين أوباما في زيارة كان مقصدها إسرائيل، إلا أنها من حيث الموضوع صارت أوسع بكثير مما كان مقدرا، فقد زار الأراضي الفلسطينية والأردن، ولم يكن هناك الكثير فيما يخص العلاقات الإسرائيلية - الأميركية مباشرة أكثر من الاحتفاء بها بزيارة لموقع من مواقع «القبة الحديدية»، وإزالة الغيوم من علاقات نتنياهو مع الرئيس الأميركي الذي سلم بحق الشعب اليهودي التاريخي في فلسطين. لم تعد المسألة كما كانت تمثل خطأ تاريخيا من النازيين ضد اليهود فيما عرف بهولوكوست الحرب العالمية الثانية، ولكنها حقوق دينية وتاريخية لا يقبل الإسرائيليون بأقل منها، وكان أوباما على استعداد لتجاهل حالة فلسطين التاريخية والدينية في كل العصور التي كان الشعب الفلسطيني فيها مقيما على أرضه.

لم تكن هذه هي القصة الأصلية على أي حال، فنحن الآن في الفترة الثانية للرئيس باراك أوباما، وهذه هي آخر فرصة له لكي يضع بصمة حقيقية على التاريخ، فحتى جائزة نوبل التي حصل عليها جيمي كارتر بعد عقود من خروجه من البيت الأبيض حصل عليها أوباما قبل أن يستقر داخل قصر الرئاسة. ولكن الزائر الأميركي يعلم جيدا أنه بقدر أهمية الجائزة التاريخية لتحقيق السلام في الأرض المقدسة، فإن ذلك إلى المستحيل أقرب، وهي نوعية من المهام التي تضع المتبني لها في مرمى النيران الدائم من حلفاء وأصدقاء وأعداء. ولكن لا بأس على أي حال من بعض المظاهر التي تضع الرماد في العيون، وقد ترضي بعض الأصدقاء العرب، وبعضا من الإسرائيليين الذين قد رأوا التحالف الأميركي - الإسرائيلي لا يهتز، أن يتعاونوا في المهمة التاريخية الأصعب وهي الخروج الأميركي من الأزمة الاقتصادية المستحكمة. هكذا يريد باراك أوباما لنفسه أن يسجل في التاريخ على أنه الرجل الذي فعل ما فعله فرانكلين روزفلت الذي أخرج أميركا من الكساد الكبير، ولن يحدث ذلك إلا بتوافق أميركي على صفقة تاريخية من نوع جديد تظهر في الموازنة العامة، وتفرض نفسها على التعامل مع العجز والدين، وتتفرع إلى الضرائب والبرامج الاجتماعية. وصدق أو لا تصدق أن لإسرائيل يدا في ذلك، فمن يعتقد أن «اللوبي اليهودي» في أميركا له نفوذ فيما يخص الشرق الأوسط لا يعرف الكثير عن السياسة الأميركية التي يعلم فيها «اللوبي» أن النفوذ يبدأ من الفاعلية في السياسة الداخلية الأميركية. وهكذا حاز السيد الشاب إعجاب اليهود في إسرائيل، ولن ننتظر طويلا لكي نجد مردودات ذلك على السياسة الداخلية الأميركية فتسرع ما كان بطيئا من الانتعاش الأميركي.

كتب القدر على أوباما أن يكون مصلحا لما ارتكبه سابقوه من أخطاء، ويكون ذلك سبيله إلى التاريخ، وعندما قرر الخروج من العراق، وربما دون أن يعلم، كان يبدأ تاريخا جديدا في المنطقة سجل فيه إمكانية الإطاحة بنظم سياسية كاملة ومعها آيديولوجياتها، ومعه بدأت أكبر عملية لكراسي السلطة والقوة الموسيقية في الشرق الأوسط. القضية التاريخية لدى الشاب الأميركي لم تعد تحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين، فذلك يمكنه الانتظار قرنا آخر من الزمان، ولا يوجد فيه ما يقلق على أي حال، وإنما إعادة ترتيب الأوضاع الفائرة في المنطقة بعد الفراغ الذي تركته القوة العراقية والذي أدى بدوره إلى الصعود الإيراني الكبير بالنفوذ في سوريا ولبنان بعد العراق (الهلال الشيعي في نظر البعض) وبالقوة النووية. ولكن على الجانب الآخر، كان سقوط صدام حسين وحزبه المقدمة الطبيعية لسقوط بشار الأسد، وزعزعة مكانة حزب الله، وحتى حماس من بعدهما، وفي خضم ذلك كله وما فيه من عنف، تحتاج المنطقة لا لزيارة سيدة عجوز محملة بالأموال، وإنما لزيارة رئيس شاب لا يكف رأسه عن إنتاج الأفكار.

لاحظ النتائج الملموسة لزيارة أوباما، أولها وأهمها على الإطلاق التصالح الإسرائيلي - التركي، لم يعد الاعتذار الإسرائيلي لتركيا عن حادث «مرمرة» صعبا، ولا كان دفع التعويضات لأسر الضحايا مستحيلا، ولا كان الأتراك لديهم مشكلة في العودة الفورية للعلاقات الدبلوماسية وأشكال التعاون الأخرى. وثانيها زيارة الأردن ومنحه 200 مليون دولار، واعتباره شريكا رئيسا في أمور شتى. ومن الجائز أن الصدفة ساعدت، فقد قرر الزعيم الكردي أوجلان أن يطلب وقف إطلاق النار والذهاب إلى السياسة بحثا عن حل، وفي ذات الأيام استقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي. ما الذي يجمع ذلك كله، ما جاء بقصد الزيارة، وما حدث ربما بالصدفة، أو بأقدار مساعدة للزائر الشاب؟ الإجابة أنها كلها ترتبط بسوريا، وكلها تحيط بها، وهي لن تساعد في الإطاحة بنظام كان سيسقط إن عاجلا أو آجلا، وإنما هي عملية ترتيب تأخرت لما بعد الخروج الأميركي من العراق، وهذه المرة قد يكون الترتيب أوسع، فقد جرى ما جرى وسط تغييرات ثورية عميقة في المنطقة كلها طولا وعرضا قد تدخل التاريخ من يحاول وضعها على طريق مستقبل وصلته من قبل دول أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية والوسطى، والآن لا يمكن الوصول إلى آسيا ما لم تنته قصة الشرق الأوسط.

هل ينجح أوباما في الدخول إلى التاريخ كما يريد؟ يظل هو السؤال الأصعب الذي يواجه الساسة ورجال الدولة. والإجابة عليه دائما تشهد بتعقد العملية التاريخية، وقد تعلم الرجل من المؤرخين الذين يجلس إليهم بصورة دورية، أن القائد عليه أن يحاول، أما النتيجة فقد انتظرتها السيدة العجوز من القرية التي أتت إليها، وفي قريتنا الشرق أوسطية يوجد دائما الكثير من المفاجآت؟!