حركة التصحيح السورية الحقيقية!

TT

دائما ما يقدم لنا القدر مفاجآت فيها من الحِكم والعبر الشيء الكثير للتدبر والاتعاظ؛ فالقمة العربية التقليدية كانت دوما مسرحا مفضلا لبشار الأسد ليستعرض فيه أمام الزعماء العرب والشعوب العربية بخطابات «بعثية» عقيمة طويلة خالية من المعنى والمضمون، ولا هدف ولا مغزى منها سوى «العلاك» وتسجيل موقف أمام الناس فقط لا غير.

أما في القمة التي افتتحت في العاصمة القطرية الدوحة، أمس، يحدث المشهد الحلم لتخرج «سوريا الأسد» من الجامعة العربية للأبد، وحلول، وباستحقاق مؤكد، للائتلاف السوري المعارض وعلم الثورة السوري الأخضر، وبرئاسة معاذ الخطيب، الذي نال القبول والاحترام العريض، لأنه رجل يمثل شعبه وليس مفروضا على شعبه، ورث الحكم بفوهة السلاح وتحت مقصلة المخابرات والشبيحة. إنه يتحدث بعفوية وآدمية وصدق واحترام، وهي مسائل لا يمكن أن تقال بالأسلوب ذاته عن بشار الأسد وزبانيته. إنها مشاهد التحول التاريخي في حكم الشعوب ومصير الأمم. إنها الأيقونات الأخلاقية التي تأتي باعثة للأمل والكرامة وتحقق آمال الشعوب بشكل متكامل وعادل ومثالي.

التاريخ شهد هذا الأمر من قبل، واحتفى بنيلسون مانديلا وهو يحرر بلاده من طغاة التمييز العنصري الطبقي البغيض، واحتفى من قبل بالمهاتما غاندي وهو يحرر بلاده من سلطة الاحتلال البريطاني ويضرب المثال العظيم على قدرة الشعوب على تحرير نفسها من الظلم وقهر الشعوب على أيدي الطغاة والجبابرة ونصرة العالم الحر لها متى ما تحققت الرؤية والإرادة. من المقعد السوري نفسه الذي كان يتبوأه بشار الأسد، ومن قبله أبوه حافظ الأسد، ومعهم وفود ذات وجوه غاضبة تثير الذعر في وجوه من ينظر إليها، كان الوفد السوري الذي مثل بلاده في الدوحة واجهة حضارية ومشرفة وإنسانية فيها الوجوه السمحة الشريفة التي تعكس عظمة وتاريخ وتراث سوريا الحقيقية، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم ورمزي طال انتظاره.

حالة الفخر والزهو والاعتزاز التي شعر بها السوريون وهم يرون علم بلادهم الجديد، ووفد بلادهم «السوي»، وكلمة معاذ الخطيب المليئة بالوطنية والمنطقية والحكمة والعاطفة والطمأنينة والنابعة من صميم القلب، هي كفيلة بزرع جرعات الطمأنينة والأمل والقوة لأجل مستقبل أفضل للبلاد، بعد أن بلغ اليأس والقنوط والخوف والحزن حدوده العظيمة في نفوس الناس وقلوبهم جراء سنين من التنكيل والقتل والتعذيب والقصف والتدمير بشكل وحشي لم تعرف له الإنسانية مثيلا ولا شبيها.

مسامير نعش نظام الأسد تزداد، وكلها تسير في اتجاه واحد، ولا غيره، وهو أن مسألة الخلاص من نظام بشار الأسد لم تعد فقط مطلبا سوريا ولا عربيا ولا إقليميا ولا إسلاميا، بل هي قرار أخلاقي إنساني في المقام الأول، لأنه لم يعد بالإمكان الحوار ولا التفاهم ولا النقاش مع نظام أفلس سياسيا وأخلاقيا، وحجز مكانه في أرشيف التاريخ مع الطغاة الذين وجب الخلاص منهم. رأينا بجلاء ووضوح نوعية الناس الذين من الممكن أن تقدمهم سوريا لقيادة البلاد بدلا من الترويج السطحي والمضلل والساذج بأن سوريا هي كلها سوريا الأسد، وبالتالي هي بلاد أصابها العقم السياسي ولم يعد بالإمكان أن تنتج من يحكمها إلا من آل الأسد أبا ثم ابنا.

جاء حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا بحركة غريبة سماها زورا وبهتانا «حركة تصحيح»، وجاء بعده ابنه بشار الأسد في مهرجان توريث عدل فيه الدستور في عملية «سلق بيض» برلمانية تاريخية، والآن ها هي سطور تصحيح التاريخ تُكتب في الدوحة لتكون أولى خطوات ميلاد سوريا الجديدة، وتكون بالفعل حركة التصحيح التي انتظرها الشعب السوري كله.