1848

TT

يتذكر المثقفون في كل مكان عام 1789 - عام الثورة الفرنسية، ويتذكر اليساريون 1917 - عام الثورة البلشفية، ثورة أكتوبر (تشرين الأول). وعلى طرف آخر، يتذكر الاقتصاديون عام الثورة المجيدة 1668، الثورة التي وضعت أسس النظام الرأسمالي. غير أنني أجد تاريخا آخر أجدر بالذكرى والانتباه، ولا سيما بعد أن سماه المؤرخون عام الثورات، وهو سنة 1848.

فهنا، لا نجد ثورة لبلد واحد، وإنما نجد ثورة في كل البلدان الأوروبية وفي ميادين مختلفة شملت الفكر والفلسفة والفن والأدب. يرد للذهن أولا البيان الشيوعي المعروف بالمانفستو الذي أصدره ماركس وإنجلز في 26 فبراير (شباط)، البيان الذي بشر بالثورة الشيوعية بشعارات «يا عمال العالم اتحدوا»، و«العمال لا يفقدون شيئا في ثورتهم غير قيودهم»، و«فلترتعد الطبقة الحاكمة أمام الثورة الشيوعية».. وهلم جرا...

وبالفعل، ثار عمال فرنسا وأسقطوا الحكومة القائمة وأعلنوا قيام الجمهورية الثانية. ومن باريس، سرت نيران الثورة لكل العواصم الأوروبية. فاستقلت سويسرا وأعلنت قيام النظام الفيدرالي. واضطر الجيش في النمسا وهولندا للتدخل وقمع المتظاهرين بما أدى إلى مجزرة في شوارع فيينا. وحيثما جرت مثل هذه الاضطرابات، اضطرت السلطات في هذه البلدان للإذعان لمطالب الشعب وإعلان حرية الصحافة وقيام أنظمة ديمقراطية. وكان ثوار 1848 يؤمنون بالعنف والنار والحديد، مما أسفر عن كثير من الأعمال التخريبية والدموية. فلم تكن السلطات ولا الجماهير قد استوعبت بعد أساليب الجهاد المدني والعمل السلمي واحترام الشرعية.

النتيجة المهمة من كل تلك الاضطرابات، أن السلطات تلقت دروسا مفيدة في ضرورة المبادرة بالإصلاحات ومشاركة الجمهور في تسيير شؤون الدولة وتحسين أحوال العاملين والمحتاجين والعاطلين قبل فوات الأوان.

بيد أن الكثير من الإصلاحات تعدت حدود أوروبا وشملت تحرير العبيد في سائر المستعمرات وإعلان مساواة اليهود.

وكما ذكرت، انعكست هذه الروح الثورية على الميادين الفكرية أيضا، فبجانب المانفستو الشيوعي صدر في إنجلترا في نفس السنة مانفستو ما قبل الروفائيلية، أو مانفستو إخوان البري روفائيليين (Pre - Raphaelites)، كانوا جماعة من الفنانين دعوا لنبذ تقاليد الكلاسيكية والعودة لما قبل رافائيل (1500) من الواقعية الفوتوغرافية الحرة. رسم ميلي العائلة المقدسة كأي أسرة فقيرة في دكان نجار يظهر فيها المسيح (عليه السلام) صبيا يلعب ويجرح يده، في حين تنشغل أمه بواجباتها البيتية بدشداشتها البسيطة ووجهها التعبان من الكدح. ما رأى النقاد اللوحة حتى اتهموا إخوان البري روفائيليين بالزندقة. عمدت المجموعة لتصوير الفئات السفلى، ولا سيما بائعات الهوى، كضحايا للمجتمع من استغلال الرجال، فنادوا بحقوق المرأة. رسموا كل هذه اللوحات بواقعية صادقة جعلتهم الرواد الأوائل حقا للحداثة، سبقوا الانطباعية بسنوات.

امتدت هذه الروح لميادين الأدب، فحول هذه الآونة (1848) برز كتاب الواقعية الحديثة؛ ديكنز وبلزاك وهوغو، ونشروا روائعهم الخالدة التي صورت المآسي الاجتماعية.

كانت 1789 حدثا خاصا بفرنسا، ولكن 1848 أصبحت عملية تاريخية عمت المجتمع الأوروبي كله ومهدت لمسيرة الإصلاح والتطوير.