مقارعة الحجة بالتهكم!

TT

سأل شاب خليجي شيخا حكيما فقال له: يا شيخ، لماذا نحجب النساء في بلادنا ولا يحجب الغربيون نساءهم؟ فأخرج الشيخ للشاب قطعتي شوكولاته، وفتح إحداهما وقال له: يا بني، أي واحدة تختار؟ فأجاب الشاب: أختار المقفلة طبعا. فقال له الشيخ: أرأيت؟ وكذلك النساء يا بني. ثم ذهب الشاب الخليجي إلى صديقه الفرنسي وقال له: أتريد أن تعرف لماذا نحجب النساء في بلادنا ولا تفعلون أنتم كذلك؟ فأجاب الفرنسي: نعم. فأخرج الخليجي قطعتي شوكولاته، وفتح إحداهما وقال للفرنسي: أي واحدة تختار؟ فقال الفرنسي: المفتوحة طبعا لأنني رأيتها وأعجبني شكلها! فقال له الشاب بلهجة خليجية حادة: «طيب، كل.. أصلا أنتم كفار وما عندكم بترول».

تذكرت هذه القصة الرمزية، التي أرسلها لي أحد القراء، حينما كنت أشاهد برنامجا حواريا عندما ضاقت بالضيف العربي الحجج والأدلة فلم يجد سوى أسلوب التهكم بخصمه، وهي وسيلة العاجز حينما يفلس بطرحه. والتهكم، وإن كان يرسم البسمة إلا أنه يورث الضغينة والبغضاء بين المتحاورين، الأمر الذي يدفع المتضرر إلى رد أعنف وربما أكثر انحدارا فيفلت زمام الأمور ويختلط الحابل بالنابل.

ولذا، فإن المحاور الذكي يجب أن ينتبه إلى أن الخروج المفاجئ من جادة الحوار الجاد والمنطقي إلى التهكم، هو مؤشر على ضعف حجة المحاور، الأمر الذي يستدعي التأني قبل الدخول في زوبعة حوارية لا نعلم كيف ستنتهي بنا. وكم من مسؤول أو شخص رزين أقحم نفسه في حوار منحدر لأنه قبل أن يحاور من لم يتوافر فيه الحد الأدنى من آداب الحوار. وكلنا عرضة لذلك، لا سيما إن أدركنا أن هذه الحوارات بطبيعتها تدعو كل من هب ودب للدخول فيها، وخصوصا أولئك الذين يتحينون فرص النيل منا!

وبحكم كوني مهتما بقضية الحوار ونشرت عددا من الدراسات والمقالات والكتب ذات الصلة، فإنني أجد أن هناك انحدارا ملحوظا في الحوار العربي في وسائل التواصل والفيديوهات المتبادلة، لأسباب عدة؛ منها أننا لم ننشئ أجيالنا على فضيلة قبول الآخر، فينشأ الطفل في بيت ليس فيه سوى رأي واحد حاسم، وهو رأي الوالد أو الوالدة وليست لديه حرية الاختيار، فينعكس ذلك على حواره، خصوصا حينما لا يفرق بين الجد والهزل. فبعض الشباب يعتقد أن الحوار مجرد تمضية وقت، ولكنه في حقيقة الأمر قد يخلق رأي عام مستنير لو أننا قبلنا الآخر من دون تهكم وتأملنا رأيه مليا. فكل الإنجازات الحضارية من حولنا كانت عبارة عن تلاقح لأفكار الأجيال والأمم المتعاقبة.

ومن أسباب انحدار حواراتنا الجادة أيضا، ما نشاهده من حقيقة أن كل من صار يمتلك هاتفا بكاميرا أو تربطه علاقة بمعد تلفزيوني ظهر لنا على الشاشة وألقى على أسماعنا بالغث والسمين من الكلام الجارح من دون أدنى اعتبار لأصحاب العلم والعقول الراجحة، الذين لا تكون مناقشتهم إلا بالكلام الجاد والمنطقي. وزاد الطين بلة بعض السياسيين الجدد الذين صاروا أمثلة سيئة للشباب في تطاولهم واستهزائهم الفج بالناس اعتقادا منهم أنهم يمارسون حرية الرأي، ناسين أو متناسين أن حرية الرأي الحقيقية لا تتجلى روعتها إلا حينما يتحلى المرء بقوة مقارعة الحجة بالحجة... وليس بالتهكم!

[email protected]

* كاتب متخصص في الإدارة