رائحة المطر؟ العطر؟ الخبز؟ القطار؟

TT

سألت الـ«إيكونوميست» عددا من الكتاب والكاتبات عن أجمل رائحة لديهم. قالت الأولى، عطر الورود البريَّة، والزهر في موسم النحل والرحيق. وقالت الثانية إن الروائح تشعل ذكريات الماضي، فغالبا ما يعيدنا عطر ما إلى طفولتنا: «رائحة البن المحمص.. التراب الرطب في مزرعة جدي.. ورائحة الشعير المحصود حديثا».

قال الكاتب إدوارد كار: «رائحة المخبوزات: الأرغفة والحلوى والعجائن الأخرى.. رائحة تبعث الطمأنينة والراحة في النفس، وتجعلنا أكثر مسالمة». قال إيان جاك: «رائحة الحقول التي تمرّ بها القطارات في الهند». قال روبن روبرتسون: «رائحة المطر. عندما أقف على الساحل الشرقي من أسكوتلندا تثير بي رائحة بحر الشمال كل المشاعر. وإذا لم يكن البحر نفسه، فمياهه التي تتدفق أحيانا فوق بلاط الأزقة، أو رائحة ثماره.. السمك المقدَّد والقواقع الطازجة، أو رائحة المطر ينهال على رمال الشاطئ بالرذاذ».

في هذه الأجوبة لمحت بعض الذكريات: ذات يوم في الستينات كنت أتسكع في حديقة «نويي» عندما هطل مطر الخريف فجأة، غزيرا وعصبيا، فتفجرت الأرض وفاحت رائحة التراب.. تذكرت رائحة قريتي في الخريف.. المطر يخلط الورق الأصفر بالتراب وبقايا الثمار الجافة ويحملها جميعا في فيضان جارف سريع صغير وفواح.

ورائحة الرغيف في الأفران تذكرني بأفران بيروت في الصباح، وكانت لا تزال تشبه أيام ابن الرومي: «إن أنسى لا أنسى، خبازا مررت به». ولا أنسى «أبو العبد» يحمل على رأسه صدر الكعك بعد الظهر، معلنا بكل ظرف وصوله: «اجا عمك أبو العبد. يللا يا كعك، يللا يا بريوش». ولا يلفظ «بريوش»، طبعا، بلهجة أهل فرنسا؛ بل بلهجة أهل الجنوب. ولم يكن «البريوش» ما يُقدَّم لنا الآن في فنادق باريس، بل عبارة عن طحين مجرد خُمِّر ونفخ قليلا، وكان أطيب بكثير، وكانت حاسة الشم لا تزال تهوى العطر من بعيد، ومن قرب، ومن بين بين.

لم يعد لبيروت أي رائحة غير التلوث والزحام وزنخ التصريحات. كنت أعود إلى المنزل ولي كل موسم عطر ما في حديقة الجيران: زهر الليمون أو سحر الياسمين أو موسم البرتقال المرّ. والرائحة العطرة الأخرى كانت تنبعث من صناديق التفاح المعروضة أمام الدكاكين، وإلى جانبها صناديق العنب.

وثمة مهرجان الروائح في «سوق أبو النصر» وسط بيروت. أكياس خلف أكياس من البهار والقرفة والكمّون وجوزة الطيب وخلائط الحواس. والحياة تدب سعيدة وهانئة وبلا عقد وبلا غلظاء. صحيح، الروائح تعيد الذكريات وفوح الأيام التي لا تعود، لكن الذاكرة تحرسها لنا، فتبقى، ولو تداعت حواسنا تحت ثقل السنين وأنواع التجارب. ولست أدري أي عطر أجمل في حياتي، لكنني أكيد من الرائحة الأبقى: رائحة الوسادة في بيت أمي، لحظة ننام وهي معنا ونفيق وابتسامتها وشعرها وطيبها فوق رؤوسنا.