موقف محترم.. وآخر غير ذلك

TT

وسط الكم الهائل من المواقف التي تتصدر يوميا المشهد السياسي في لبنان، المكتوي بانحباس إعادة التقييم من جانب نجوم الرأي العام، الفاعلين في إبقاء لبنان ممرا للغير ومستقرا للقلق على المصير - هنالك موقفان متلازمان يلفتان الانتباه؛ أحدهما محترم، والآخر غير ذلك. وعندما يقارن المرء بين الموقفين، تتأكد له حقيقة النوايا ومعادن القائلين. والذي يلفت الانتباه أن الموقف المحترم، الذي هو من أجل لبنان الوطن والعيش المشترك والاستقرار على حال، حدث قبل ساعات من الموقف النقيض، الذي هو ليس لمصلحة لبنان الوطن، وتذكير بزمن التباغض إلى حد الاقتتال وبسنوات لم يذق لبنانيو الطيف المتجرد وهم الأكثرية التي بقيت صامتة وساكتة عن ضيم لبنان الميليشيات ثم لبنان الدور السوري الذي انتزع من اللبنانيين سيادتهم وزرع بذرة عدم الولاء للوطن التي سقاها بممارسات أمنية وقمعية كتلك التي يعانيها الشعب السوري منذ سنتين.

يتمثل الموقف المحترم بزيارة قام بها علي عواض عسيري سفير خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى دير مار يوحنا التابع للرهبانية الأنطونية في بلدة عجلتون، إحدى بلدات منطقة كسروان، والواقعة في منتصف الطريق بين ساحل بحر بيروت، وجبله المكلل بالثلوج هذه الأيام. وجاءت الزيارة بعيدة كل البعد عن الافتعال، وإنما تلبية لدعوة من الأب أنطوان ضو الأمين العام للجنة الأسقفية «الحوار المسيحي - الإسلامي» وهو الحوار الذي طالما وجه الملك عبد الله بن عبد العزيز بتفعيله، ومن أجل ذلك كانت زيارته للفاتيكان (الثلاثاء 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007) ولقاؤه التاريخي بالبابا بنديكتوس السادس عشر (حديث العهد في تنصيبه رئيسا للكنيسة الكاثوليكية)، وهي زيارة استهدفت في الدرجة الأولى تحفيز البابا بنديكتوس على التفعيل المشار إليه، وهذا كان محور حديث اللقاء الذي استغرق نحو ساعة، تخللها تبادل الهدايا التذكارية بين الملك، الذي قدم إلى البابا سيفا من الذهب والفضة المرصع بالجواهر الكريمة وتمثالا من الذهب والفضة يصور نخلة ورجلا يركب جملا، بينما كانت هدية البابا إلى الملك عبد الله لوحة تمثل الفاتيكان تعود إلى القرن السادس عشر. وأفترض - كمتابع - أن البابا بنديكتوس، الذي اختار العزلة الإيمانية معلنا يوم الاثنين 11 فبراير (شباط) 2013 قراره الاستقالة اعتبارا من 28 من الشهر نفسه، يستحضر وهو في عزلته ذكريات الحقبة القصيرة التي أمضاها رئيسا للكنيسة الكاثوليكية (البابا 266) حيث تم تنصيبه عام 2005، مما سمعه من الملك عبد الله خلال لقائهما في شأن أهمية الحوار بين الأديان والحضارات، وقوله بالتحديد: «إن الشعوب تجمع بينها قيم مشتركة، وإن خير تعبير لهذه القيم هو ما جاءت به الأديان...».. وما كنت أسمعه من كلام في منتهى الرقي من الأمين العام «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات»، فيصل بن عبد الرحمن بن معمر، حول تطلعات المركز، الذي يتخذ من فيينا مقرا له، يوضح لنا كل التوضيح البعد الاستراتيجي لرؤية الملك عبد الله بن عبد العزيز في شأن الحوار بين الأديان الذي يعزز - عمليا - مبادرة السلام العربية.

في تلك الزيارة التي لباها السفير علي عواض عسيري، الذي لا يخلو لقاء يقوم به أو تصريح يدلي به من التمني على رموز العمل السياسي الرسمي والمجتمعي بأن يكون الوفاق سبيلهم إلى تحقيق الاستقرار، ويفعل ذلك هديا بتوجيهات القيادة السعودية، التي هي دائمة البذل والتنبيه والنصح كي لا تتكرر حقبة ما قبل اتفاق الطائف.. في تلك الزيارة العسيرية إلى دار مار يوحنا، سمع من صاحب الدعوة الأب أنطوان ضو كلاما بالغ الود ومن نوع الكلام الذي سبق أن سمعه من المطران بولس مطر راعي أبرشية بيروت للموارنة، الذي قال يومذاك (الجمعة 22 فبراير 2013) خلال استضافة مارونية متميزة للسفير عسيري، هدفها تطييب الخاطر السعودي نتيجة تصرف مبغوض: «إننا نعبر عن عرفاننا للمملكة الشقيقة من أجل كل دعم قدمتْه للبنان، وعن محبتنا في لبنان للمملكة العربية السعودية الشقيقة الكبرى، وللملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي هو في نظرنا رمز في دنيا العرب...».. وجاء كلام الأب أنطوان ضو بعد استحضاره لزيارة الملك عبد الله إلى الفاتيكان، ثم قوله للسفير ممثل خادم الحرمين الشريفين: «إن حضورك معنا هو فعل محبة مقدسة، وتأكيد أن المسيحيين والمسلمين هم أمة الله، أمة العيش المسيحي - الإسلامي المشترك». في السياق نفسه، الذي مبتدأه حوار الأديان ومنتهاه حوار الحضارات.. حواران، يراهما الملك عبد الله بن عبد العزيز بمثابة خريطة طريق ينعم به الجميع في القارات الخمس، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ووسطا.

أما رد عسيري، وهو ما أقصده «الموقف الكلامي المحترم»، فكان الثناء أولا على دور الرهبان الموارنة في التعليم، والمحافظة على اللغة العربية، وتربية النشء، وتعزيز الوحدة الوطنية، والتجذر في الأرض، وتعميم روح الحوار، والانفتاح، مضيفا حول زيارة الملك عبد الله للفاتيكان بأنها «مدماك أساسي في مسيرة الحوار الديني والثقافي الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين اهتماما خاصا». ثم لا بد من أن يذكر السفير عسيري، على ما هو معروف عنه وعن السفير السلف الدكتور عبد العزيز خوجه قبل تعيينه وزيرا للثقافة والإعلام، بالرأي السعودي الثابت في شأن «العيش الإسلامي - المسيحي المشترك» الذي هو في لبنان «نموذج راق يحتذى به».

يطول الحديث حول هذه الأجواء الطيبة، المندرجة تحت ما نرى أنه «الموقف المحترم»، الذي يحاول أصحاب الموقف الذي ليس كذلك تعكير صفوه من خلال عبارات مبغوضة ومتجنية، مثل قول الجنرال ميشال عون، الحليف الماروني لحزب الله والصديق بعد عداوة للحزب وللرئيس بشار الأسد، في مؤتمره الصحافي الأسبوعي في اليوم التالي للإطلالة السعودية، من دير ماروني في كسروان: «إن اتفاق الطائف يستحق المزبلة»، وهو قول منقوص الاتزان ومسيء إلى عشرات السياسيين اللبنانيين، من نواب ورؤساء حكومات، شاركوا في اجتماعات الطائف التي انتهت إلى تثبيت للشرعية، قبل أن يكون مسيئا إلى المملكة العربية السعودية، إذ ما كان للبنان أن يستعاد كوطن وشرعية لولا سعيهم المشكور. وتستحق صفحات مذكرات الدبلوماسي العريق نزار عبيد مدني، المعنونة «دبلوماسي من طيبة. محطات في رحلة العمر»، قراءة متأنية من جانب الجنرال عون وبطانته من نواب ووزراء، ساكتين دائما عن زلات لسانه، من نوع زلة «إن اتفاق الطائف مزبلة»، وعدم تعامل هؤلاء مع كلام جنرالهم على أنه كلام عابر من «زعيم خفيف الدم». وحتى لو كان انزعاج الجنرال ناشئا عن أنه لم يشارك في الطائف وعن أن دير مار يوحنا في عجلتون أراد تسجيل موقف ودي تجاه السعودية وفي شخص السفير علي عواض عسيري يضاف إلى موقف راعي أبرشية بيروت المطران بولس مطر، وهو ما لا يتحمله الجنرال المسكون بهاجس زعامته لرمز المارونية السياسية كسروان - فإن ذلك لا يجيز له عدم احترام جوهر مشاعر الأكثرية اللبنانية، بمن فيها الأكثرية المارونية التي ترى أنه لولا الطائف، حيث ولد الاتفاق مثل تفتح شتلات ورد تلك المنطقة اللامثيل لعبيرها، لكان ثلاثة أرباع اللبنانيين باتوا خارج الوطن ولكان لبنان الميليشيات أو لبنان السوري هو السائد. ومن هنا، نرى أن السفير عسيري سجل في «دير مار يوحنا» يوم الاثنين 18 مارس 2013 الموقف المحترم، وأن الجنرال في اليوم التالي من معقله في «الرابية»، سجل ذلك الموقف ا«غير ذلك». هدى الله الجنرال إلى حسْن التعبير.