مفاجآت ما بعد ميقاتي

TT

بصرف النظر عن أسباب استقالة ميقاتي إن كانت «تافهة» كما وصفها العماد ميشال عون، أو «وجيهة» كما شرح وليد جنبلاط، أتت بوحي خارجي وبـ«أوامر أميركية» حسب «8 آذار»، أو بـ«قرار شخصي» تبعا لما صرح به ميقاتي نفسه، فإنك في لبنان ستجد دائما الرأي وضده. والأنكى، من ذلك كله، أنك ستعثر باستمرار على جيوش منساقة، تنتصر لأي وجهة نظر تطرح على الساحة، وتحيك حولها الحجج والبراهين التي تثبت لك صوابية المقولة التي تدافع عنها. وهنا سأتبنى قولا لأحد وجهاء باب التبانة، في طرابلس، الذي قال لي منذ أيام، والمعارك تحيط به من كل جانب، والصواريخ تتساقط حوله «سياسيونا أول شيء يتعلمونه هو الكذب، ولذلك حينما يقولون شيئا فعليك أن تفكري دائما أنهم يقولون غيره في الكواليس». وأكد لي الرجل، وقد بلغ غيظه مبلغه، أن «في التبانة مجموعات مسلحة كثيرة، وأن على الأرض مخربين، وهؤلاء محميون من زعماء وسياسيين، ومدعومون بالمال والسلاح». ويشرح الرجل «الذين يثيرون شرارة الفتنة التي تبدأ معها كل معركة نعرفهم جميعنا بالاسم، وتعرفهم القوى الأمنية، كما يعرفهم السياسيون، لكن المسؤولين الكبار على استعداد لأن يضعونا أنا وأنتِ، رغم أننا لم نفعل شيئا، في السجن، فيما يبقى هؤلاء طلقاء اليد، أحرارا في رمي القنابل، وإطلاق القذائف، وقتل الناس والاعتداء على الآمنين». وأضاف الرجل غاضبا: «لا تسأليني لماذا.. هذا سؤال يوجه للسياسيين الذين يفضلون مصالحهم على حماية أرواحنا».

هكذا تفهم أن تداخل المصالح من محلية انتخابية إلى إقليمية وحتى دولية، إضافة إلى التمويلات السخية التي تصل إلى فقراء معدمين معبئَين طائفيا ومذهبيا، هي الجذوة التي منها يمكن أن تنتقل النار ليس إلى طرابلس كلها بل إلى لبنان برمته.

استقال نجيب ميقاتي إذن، في أسوأ لحظة أمنية، وفي الوقت الذي يتم الكلام فيه عن التحضير لتفجير كبير في الشمال اللبناني، لم يشهد له اللبنانيون مثيلا. هذا الكلام أكده وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال مروان شربل حين قال «إن ما يحصل في طرابلس مرتبط إقليميا، وأخشى أن يصبح مرتبطا دوليا». وتحدث عن مقاتلين «من خارج طرابلس لا يمون عليهم سياسيو المدينة»، معتبرا أن «لبنان في خطر، ولم يبق في البلد غير مجلس النواب ليجد حلا مع القوى الأمنية».

طرابلس، التي بات انفجارها يقترب وينذر بشرر مستطير، لا تبعد سوى ساعة ونصف الساعة بالسيارة عن بيروت. ليس من الصعب أن يأتي النواب الكرام ليلقوا نظرة على ما فعل إهمالهم وسوء معاملتهم لمن انتخبهم وأعطاهم ثقته. وثمة نواب مقيمون في طرابلس ولا يأبهون. الاستغاثات التي سمعتها منذ أيام في مناطق الاشتباكات لا تشبه تلك التي كنا نسمعها من قبل. الناس يشعرون بخطر داهم يقترب منهم، ويجدون أن استقالة الحكومة على عكس ما قال رئيسها ميقاتي، وبعض السياسيين الآخرين، مثل فؤاد السنيورة وأمين الجميل، لن تفتح باب الحوار والتفاهم، لكنها ستدخل البلد في التزاحم والتخاصم وشحذ العضلات.

لهذا لم يعد نادرا أن تسمع المواطنين يقولون إنهم يتمنون لو أنهم ينامون ويستيقظون على مشهد يختفي منه كل السياسيين، بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم.

طبعا نحن نتمنى لو نصدق رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي بأن استقالته «قد تشكل مدخلا وحيدا لتتحمل الكتل السياسية الأساسية في لبنان مسؤوليتها، وتعود إلى التلاقي من أجل إخراج لبنان من نفق المجهول»، أو فؤاد السنيورة الذي وجد أن الاستقالة «ستفتح المجال من أجل عودة الحوار». لكن أمين الجميل كان أقرب من الرجلين إلى الواقعية، ولم يخفِ أننا في مرحلة «صعبة جدا، فإما أن ندخل في نفق أصعب من الأول ومظلم أو نستفيد من مبادرة ميقاتي لتحقيق أمنية الشعب بتشكيل (حكومة إنقاذية)».

من حيث المنطق، من المفترض أن تشرع استقالة ميقاتي أبواب الحلول، لكن تجربة الشعب مع السياسيين اللبنانيين قاتمة وبغيضة. فشل الأفرقاء اللبنانيين طوال الأشهر الماضية في الاتفاق على مجرد قانون انتخاب، هو أمر لا يبشر بخير للأيام المقبلة. فرغم كثرة المشاريع الانتخابية التي طرحت واقترحت، بقي كل منهم، يحسب ويجمع ويطرح، ليتأكد أن القانون الذي يقبل به فُصِّل على مقاسه تماما وبما يؤّمن ربحه. وبما أن القانون الذي يؤمن سلفا ربح الجميع دفعة واحدة لم يولد بعد، ها هي الانتخابات النيابية تذهب مع الريح، وتنتظر إجراءها إلى أجل غير مسمى.

بعد أن طارت حكومة ميقاتي لأسباب معلنة، أقنعت البعض وأثارت استهزاء البعض الآخر، أصبح ساسة لبنان أمام تحد يتجاوز قاماتهم التي ازدادت هزالا وقصرا بفعل التجارب. فهم لم يعودوا أمام تحدي الاتفاق على قانون للانتخاب لم ينجحوا فيه أصلا، وإنما يتطلب منهم الأمر الاتفاق على شكل حكومة جديدة، واسم رئيسها، وحصصهم فيها، وكذلك التمديد لمجلس النواب، وتدبر أمر القادة الأمنيين الذين كان مجرد التجديد لأحدهم أحد أسباب استقالة الحكومة، وهناك أيضا استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية عام 2014.

يعلم اللبنانيون أن كل بند من هذه البنود هو موضع خلاف قد يكون قاتلا، وأن كل هذا يجب التوافق عليه، فيما النظام في سوريا، الذي يربط اللبنانيون - من معارضين وموالين - أنفسهم به على مفترق تقرره الصفقات الدولية، أكثر من المعارك العسكرية.

كل الاتفاقات اللبنانية المفصلية حصلت بعد حروب أو توترات أمنية كبرى، وبرعاية خارجية. «اتفاق الطائف» عقد بعد حرب دامت سبعة عشر عاما، أما اتفاق الدوحة فجاء بعد أحداث «7 أيار» وصدام حزب الله مع «14 آذار» الذي كاد يودي بالبلد. لبنان اليوم على شفير مرحلة قد تكون أخطر مما سبق لأن الزلزال ليس لبنانيا هذا المرة، وإنما عربي، وحتى دولي مع دخول روسيا حربا باردة جديدة مع أميركا.

من يظن أن سياسيي لبنان بمقدورهم أن يتحاوروا كرجال دولة وطنيين مخلصين، مستقلين عن ارتباطاتهم الخارجية الكبرى، ومصالحهم الداخلية الضيقة، يكون أمله أشبه بأمل إبليس في الجنة.