عندما كانت مصر.. مصر

TT

أبدأ مقالي بالعنوان نفسه وأقول: عندما كانت مصر، مصر، وليس بعد أن رخصت عند البعض وشتموها قائلين (طز في مصر).

ورجوعا مني لأوراق التاريخ التي أعشقها، لأنها هي الوثائق التي تلقي الضوء على مراحل قد لا يدركها الجاهل أو من في قلبه مرض، سوف أورد نماذج قد تبدو بسيطة أو تافهة، ولكن لها دلالة عميقة ومؤلمة، وإليكم بعضا منها: كان (زيور باشا) رحمه الله محافظا للإسكندرية من عام 1914 إلى عام 1916، وكان يركب عربته من منزله بمحرم بك إلى محطة الرمل ثم ينزل من العربة ويركب قطار الرمل إلى الوزارة أو إلى الحمام.

وكان يذهب أحيانا بمفرده أو مع أصحابه لسهرات الذهبيات في رأس البر، أو في سهرات المقاهي الراقية في الإسكندرية وكانت هذه المقاهي تتركز في ميدان المنشية وما حولها، وهي مقاه لا أبالغ لو قلت إنه لا يوجد في أوروبا ما يضارعها نظافة وخدمة وجمهورا.

مقاه كان يجلس إليها العظماء والأعيان والحكام إلى جانب أولاد البلد ويتبادلون معهم (القفشات) - انتهى.

وللمعلومية لم يكن في أفريقيا كلها في ذلك الوقت إلاّ النزر اليسير من القطارات والترومايات.

وإليكم ما جاء في صحيفة «الكشكول» عام 1926:

لم يبق شك في أن (المصيفين) المصريين الذين نزحوا هذا الصيف إلى خارج القطر بلغوا نحو الأربعين ألفا، وإذا حسبت أن كلا منهم ينفق في فسحته مائة جنيه وهو أقل تقدير، كان مبلغ ما خرج من مال مصر نحو أربعة ملايين جنيه نقدا وعدا.

تصور لو أن الأربعة ملايين بقيت في مصر وأنها دارت في حدودها فانتفع منها في الإسكندرية ورأس البر وبورسعيد والقاهرة الحوذيون وسائقو الأوتوموبيلات و(الفلايكية) وباعة الخضر والفواكه والسمك وأصحاب المطاعم والفنادق - انتهى.

وللمعلومية أيضا: كان الجنيه المصري في ذلك الزمن، هو أغلى ثمنا من (جنيه جورج) الذهبي، كما أن البلاد العربية بمجملها لم تسمع ولا تدري ما هي مفردة (المليون)؟!

ولتعرفوا مكانة وقيمة المرأة المصرية عام 1930، فإليكم هذا الخبر:

خرجت النساء في مظاهرة احتجاجا على إلغاء الدستور هاتفات بسقوط صدقي، وأرسل صدقي باشا البوليس والجيش لتفريق المظاهرة، وصوب الجنود السونكيات وفوهات البنادق لصدورهن، لكي يمنعوهن من المسيرة، غير أنهن لم يتقهقرن، بل مضين يهتفن ويتقدمن إلى الأمام صائحات «نموت نموت ويحيا الوطن».

واضطر الضباط أن يأمروا جنودهم بتركهن، وهزم الجيش والبوليس أمام بطولة النساء.

وإذا أردتم أن تعرفوا مدى الترابط بين المصريين بمختلف طوائفهم، فاقرأوا ما كان يكتبه القبطي (توفيق صليب) في جريدة «الجهاد» طوال شهر رمضان عام 1933، بقلم (صائم)، وكان قراؤه يحسبون الكاتب أحد أعضاء هيئة العلماء ولقبه بعض أصدقائه بفضيلة الشيخ توفيق صليب، وجعل فريق منهم يسميه (محمد توفيق صليب) - انتهى - وغيرها وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره.

ولكن ويا حسرتاه، هذه هي مصر التي كانت، عندما كان (غاندي) يقول: إنني أريد أن أتعلم من (سعد زغلول). تصوروا لو أن تلك المسيرة استمرت؟! ولكن (لو) عمرها ما عمرت بيتا أو وطنا. لك الله يا مصر فبقدر ما نحبك نحن نخاف عليك.

[email protected]